
نُشرت قصة “الدهليز” للكاتبة د. سمر علاقي في صحيفة مكة الإلكترونية بتاريخ 3 يوليو 2025. وهذا رابطها:
https://www.makkahnews.sa/5464357.html
استهوتني القصّة، واستوقفتني، ومن وحيها تولدت هذه القراءة المتواضعة التي أرجو أن تليق بذوائق القراء الأعزاء وبما يستحقه العمل.
تنطوي القصّة على بنية رمزية، ورؤية فلسفية، وتجريب فني واعٍ لا يُشبه الاستعراض المجاني بقدر ما يشبه التصعيد الذهني لثيمة ثقيلة كـ الانتحار، والتوبة، والنية، والمصير.
من الجدير بالذكر أن الكاتبة تملك رصيدًا إبداعيًا معتبرًا في فن السرد، من خلال مجموعتيها القصصيتين: “ذات القدمين” و**”عزاء بطعم الموهيتو”**، إضافة إلى نتاجها في أدب الطفل. وهي كاتبة تهتم بـ “الكيف” أكثر من الكم، وتمنح نصها ما يحتاجه من نضج وتأمل قبل الدفع به للنشر، وهذا ظاهر بجلاء في “الدهليز”.
أولًا: العنوان والفضاء الرمزي
العنوان مفتاح فني وثقافي شديد الذكاء.
الدهليز ليس مجرد ممر فيزيائي، بل فضاء برزخيّ بين حالتين: الحياة والموت، الوعي والغيب، النية والفعل. هو تجسيد سردي لمفهوم البرزخ أو المنطقة الرمادية حيث تتوقف كل الأحكام الصريحة.
هذا يجعل القصة تقترب من بنية “اللازمن”، حيث لا يمكن قياس الزمن بخط مستقيم، بل بتراكم النوايا والتباسات الضمير.
وفي هذا الدهليز، تحضر العناصر السردية لا لتكتفي بالوصف، بل لتصنع إشارات نفسية عميقة:
– الملابس الموحّدة
– المقصات والسكاكين
– الأكمام المربوطة
– البومة الهادئة
– والأطفال الضاحكون في قلب هذا المكان الجنائزي…
كلها رموز لا تُفسّر منطقياً بل تعمّق الغموض، وتمنح النص طابعًا فانتازيًا وجوديًا.
ثانيًا: النية والخطيئة… بين الدين والفلسفة
أهم ما تتميّز به القصة هو تحويلها الانتحار من فعل جسدي إلى نية فكرية.
السؤال المركزي ليس: “هل انتحر يوسف؟”
بل: “هل كان ينوي الانتحار؟ وهل تُحاسب النية حتى إن لم تكتمل بالفعل؟”
هذه المفارقة تحيلنا إلى تقاطع حساس بين التأويلات الدينية (التي تقول بأن الأعمال بالنيات) والفلسفات الأخلاقية الحديثة (التي ترى في القصد جوهر الفعل).
حوار اللجنة القضائية في القصة مع يوسف يلتقط هذا الجدل بعناية دون وعظ مباشر:
“كنت تنوي قتل نفسك لتنهي الألم، بغض النظر عما آلت إليه الأمور… ألا ترى أن هذه النية بحد ذاتها كفيلةً بحكم غير مخفف؟”
إنها قصة عن النوايا غير المكتملة، والخطايا التي ربما لم تُرتكب أبدًا، لكنها “كادت”، وكفى بذلك للتورط الوجودي الكامل.
ثالثًا: التخييل الأخلاقي وسريالية العبث
القصة تنتمي بوضوح إلى نوع من الواقعية السحرية السوداء، أو ما يمكن تسميته بـ “أدب المحاكمة العبثية”، على غرار كافكا في “المحاكمة”.
فهذه اللجنة النورانية، ذات الوقار الملائكي، تمارس سلطتها المطلقة بروح ساخرة، باردة، لا تخلو من التهكم.
يوسف لا يحاكم على فعله بل على تداعياته، وتأثيره على الآخرين بعده (مثل ستيفن ويليامز)، كأن القدر لا يكتفي بتتبع الجريمة بل يطالبك بتفسير تأثيرها في غيرك، حتى لو لم تقصد.
الأطفال في المكان، والفنيلات ذات الزينة الحادة، والأدوات المطبخية المربوطة بالأجساد، تُضيف طبقة سريالية تجعل القارئ معلقًا بين الضحك والهلع، وتؤسس لمشهد أقرب إلى الحلم الميتافيزيقي الذي يسخر من جدية المصير.
رابعًا: الحبكة والبناء الدائري
القصة مصممة بشكل حلقي بارع، تبدأ بـ “يقظة مشوشة” وتنتهي بـ “مغادرة مشوشة”، تعيد يوسف إلى الحياة دون ذاكرة.
هذا النوع من النهايات يُحدث توترًا وجوديًا:
هل سيعيد نفس الخطأ؟ هل غيّرته التجربة غير الواعية؟ هل يعود لاختبار القدر من جديد؟
الختام المفتوح:
“ترون أنه سيعود كعادته؟!”
يضعنا أمام فكرة العودة الأبدية، أو عبثية التعلم دون ذاكرة، في تكرار يشبه ما بعد الصدمة النفسية (Post-Trauma Fiction) ، حيث تعيش التجربة، ثم تُنسى، لكنها تترك أثرًا خفيًا يتسرب ببطء إلى السلوك.
خامسًا: اللغة والصوت السردي
لغة القصة ثرية ومصقولة، لا تخلو من صور مبتكرة واستعارات مركّبة تخلق مشهدًا داخليًا مضطربًا ومتوهجًا.
من أمثلة ذلك:
“كأن العالم أخذ نفسًا عميقًا ونسي أن يزفره”
“جسده كطريق غير معبد تتسارع عليه آلاف الشاحنات الهائلة”
الإيقاع السردي متصاعد بوعي، لا يُسرف في التحليل، ولا يختنق بالوصف. التنقل بين السرد الخارجي والداخلي يتم بانسيابية تُشعر القارئ بحالة يوسف النفسية دون أن يُخبره بها مباشرة.
الحوارات، وإن اقتربت أحيانًا من الخطاب المباشر (كما في جملة: “ألم يدرّسوك شيئًا من الفلسفة في المدرسة؟”)، لكنها تبقى ضمن حدود المقبول سرديًا، وتنسجم مع طبيعة شخصياتها المتخيَّلة.
سادسًا: الشخصيات الرمزية
• يوسف: رمز الإنسان العصري الممزق بين البذخ والسقوط، بين المظاهر والانهيار الداخلي. ليس شهيدًا ولا بطلًا، بل مجرد “نقطة تائهة” في وسط شبكة الحياة.
• العجوز الوقور: ليست ملاكًا ولا شيطانًا، بل هيئة قضائية ميتافيزيقية تحكم بنبرة مشوبة بالشفقة والصرامة.
• البومة: رمز المراقبة أو الضمير، تصمت ولا تعلق، لكنها حاضرة كظل لا يُفارق.
سابعًا: في الثيمات والمضامين
• الألم كجزء من نسيج الحياة:
لا تُدين القصة الانتحار بوصفه فعلًا شريرًا، بل بوصفه إخفاقًا في الانتظار. فكرة أن عفاف والملايين كان يمكن أن تعود، بعد عامين فقط، هي أقسى لحظة في النص، حيث يواجه يوسف فداحة عجَلته.
• التوبة كصفقة غامضة:
التوبة هنا ليست “قرارًا ذاتيًا”، بل خيار كوني لا يتضمن وعيًا كاملًا. تعود للحياة لكنك لا تتذكر الدرس. وهذا يطرح سؤالًا مريرًا:
هل هناك فائدة من التجربة إن لم تُتَذكر؟ وهل الرحمة تُمنح بالإنكار أم بالاعتراف؟
ثامنًا: ملاحظات فنية أخيرة
• كثافة الرموز: أحيانًا، تتراكم الرموز بشكل قد يربك المتلقي، مثل الأكمام، الشجرة، المقصات… وهي رموز يمكن توزيعها على مراحل متعددة من القصة لاكتساب نفس التأثير دون تزاحم بصري.
• وصف الجسد الهزلي: بعض العبارات كـ “برعمة أجاص مثمرة”، تحمل حسًا تهكميًا قد يشتت الجو العام للقصة ويُضعف لحظات التوتر.
أخيرًا: تصنيف العمل وأهميته
“الدهليز” قصة تنتمي إلى الأدب الفلسفي الرمزي، بمزيج من الواقعية السحرية والعبث الكافكوي.
قد تصنّف ضمن أدب الديستوبيا النفسية، أو القصص الفلسفية الحديثة التي تُسائل القيم لا تُقررها.
هي قصة لا تُقدِّم حلًا، بل تُربك السؤال. قصة عن الخلاص المؤجل، والنية غير المكتملة، ودهليز الروح الذي قد يطول أكثر من الموت ذاته.
أخيرا…. القصّة عمل ناضج، جريء، متماسك فنًا وفكرًا. وأرجو أن يكون نواةً لمجموعة قصصية قادمة للمؤلفة تتناول ثيمات مماثلة: الحيرة، المحاسبة، ما بعد الموت… وكل ما يتوارى خلف “الدهليز”.