المقالات

قلب كلب.. وضمير إنسان؟!

في زوايا مدننا المكتظة، حيث الضجيج يعلو فوق الأصوات، والأنظار لا ترى أبعد من ظاهر الأشياء، تُكتب أحيانًا أعظم ملاحم الرحمة بأيدي – أو بأقدام – لم نعتد أن نوليها احترامًا.
قصة الطفلة التي أنقذتها كلاب شاردة في كولكاتا عام 1996، ليست مجرد واقعة غريبة، بل مرآة عاكسة لحقيقة عميقة: أن الفضيلة لا تُقاس بالمظهر، بل بالفعل؛ ولا تصدر دائمًا عن الإنسان، بل عمّن فُطر على النبل، وإن خالف شكله توقعاتنا.

مشهد لا يُنسى: الوفاء حين يتجاوز الفطرة
تخيل المشهد:
ثلاثة كلاب شاردة، نحيلة، متّسخة، بلا أسماء، بلا بطاقات تعريف، ولا ملاك يرعونها. في نظر المجتمع، هي “آفات”، خطر ينبغي التخلص منه. لكن هذه الكائنات، التي حُكم عليها بالإهمال والطرد، احتضنت طفلة بشرية رضيعة تُركت على قارعة الحياة. كوّنت حولها درعًا حيًّا، تحرسها من الخطر، وتمنح جسدها الدفء، وتبعد عنها الغربان والحشرات لثلاث ليالٍ متواصلة.
لم تصدر عنها ضوضاء إعلامية، لم تُطلق نداء استغاثة، لم ترفع شعارات ولا طالبت بحقوق الحيوان أو الإنسان.
كل ما امتلكته تلك الكلاب كان قلوبًا نابضة بالرحمة الغريزية، قررت أن هذه الطفلة تستحق الحياة، فحمتها دون أن تنتظر شكرًا أو مديحًا.

عندما تسقط الأقنعة… وتتكشف القلوب
قد يشكك البعض في تفاصيل القصة، أو يتساءل: أهي أسطورة حضرية؟ لكن الواقع يحفل بأمثالها؛ فالعشرات من القصص المشابهة حول وفاء الكلاب، وحمايتها للبشر، تؤكد أن الرحمة ليست حكرًا على من يمتلك عقلًا، بل قد تنبع ممن يمتلك قلبًا، ولو لم يُصنف “إنسانًا”.

يقول تشارلز دي جالي:
“كلما ازددتُ معرفةً بالبشر، ازداد حبي للكلاب.”
ليست هذه المقولة إهانة للبشرية بقدر ما هي تأنيب ضمير لها. إنها تشير إلى تناقض صارخ: بين من يملكون نعمة العقل والمنطق والخطابة، لكن أفعالهم قد تكون قاسية أو منفعية، وبين كائنات توصف بالهمجية، لكن أفعالها نقية، غير مشروطة، وصادقة إلى أبعد حد.
o الكلب لا يتظاهر بالوفاء؛ فهو وفِيّ.
o لا يتصنع الشجاعة، فهو شجاع عندما تدعو الحاجة.
o لا يُعلن عن مشاعره؛ بل يعيشها بكل جوارحه دون حسابات.

بشر على خُطى كولكاتا
في حياتنا اليومية، نُصادف “كلاب كولكاتا” من البشر:
أشخاصٌ متواضعون، لا يُلفتون النظر، وقد يبدو عليهم الفقر أو البساطة، لكنهم يحملون من الرحمة ما لا تُظهره ملامحهم.
o ذلك الجار الذي يطعم القطط الضالة كل ليلة دون أن يُشهر فعله.
o الموظف البسيط الذي يسدد دين محتاج من راتبه المتواضع في صمت.
o العابر الذي يُمسك بيد عجوز في الشارع، يعبر به الطريق ثم يختفي.
هؤلاء لا يطلبون مقابلًا، لا يُصورون فعلهم ولا يُضيفونه إلى السيرة الذاتية. هم أبطالٌ صامتون، يمارسون إنسانيتهم كعبادة يومية خفية.
هؤلاء هم “كلاب كولكاتا” البشر. قلوبهم مُسخّرة للخير، وأفعالهم هي لغتهم الوحيدة، وهم لا ينتظرون يوماً للحساب لأن حساباتهم مع أنفسهم وبارئهم تكون قد اكتملت كل يوم.

ميزان الله لا يُقاس بالمظاهر
إن قصة الإنقاذ تلك تذكرنا بأن القلوب الحانية موجودة في كل قلب ينبض، مهما كان شكله أو نوعه أو أصله. وتؤكد أن أعظم الأعمال هي تلك التي لا تنتظر مقابلاً، والتي تنبع من قناعة داخلية عميقة، وحبٍّ فطري للإحياء، وإنسانية مربوطة بالروح كجزء من كينونتها.
وفي هذا السياق، يصدق قول النبي محمد ﷺ: “رُبَّ أشعثَ أغبرَ مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره”.
هذا الحديث النبوي الشريف يلخص جوهر رسالتنا. فذلك الرجل الذي يبدو في هيئته أشعث أغبر، مُهمَل من الناس، قد يُدفع بالأبواب (أي يُرفض ويُطرد)، قد يكون عند الله من المقربين، لدرجة أن لو أقسم على الله لأبر قسمه. قيمته الحقيقية ليست في مظهره الاجتماعي، ولا في مكانته بين الناس، ولكن في قلبه وأعماله التي لا يراها إلا علام الغيوب.
كم من شخصٍ يبدو للناس حقيرًا، متّسخًا، غير جدير بالاهتمام، لكن منزلته عند الله عظيمة، لأنه يملك قلبًا صادقًا، وفعلًا نقيًا، ونيّة خالصة.

حين تتحدث القلوب، تصمت المظاهر
في النهاية، علينا أن نعيد تدريب أبصارنا. أن نتوقف عن الحكم على الكتب بأغلفتها، وأن نغوص أعمق إلى حيث تُختبَر النوايا وتُقيم الأفعال. فلربما كان أعظم المؤمنين بيننا ذلك الشخص الهادئ الذي ربما لا يصلي في الصفوف الأمامية، ولكن يداه ممتدتان دومًا لبناء العالم وإصلاحه، بلا ضجيج، وبلا مظاهر، وبكل إنسانية. وربما كان ذلك الكلب الشارد، بتضحيته الغريزية، أقرب إلى معنى الإنسانية الحقيقية من منا. فليكن مقياسنا للأشياء والأشخاص هو ما يقدمونه للحياة، لا ما يظهرونه منها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى