المقالاتعام

“حج ياحاج” وجميل الذكريات

تتجه أنظار المسلمين واشواقهم في كل مكان نحو مكة المكرمة والمدينة المنورة، وكان لأهل السودان طُرقهم المميّزة في التعبير عن شوقهم لأداء فريضة الحج وشعيرة العمرة.
في الماضي، كان السفر إلى أرض الحرمين شاقاً للغاية؛ الطرق وعرة ووسائل النقل محدودة، إلا أن ذلك لم يكن حاجزاً يمنعهم، كان الحاج يقضي في رحلته مدة طويلة قد تصل إلى شهرين كحد أدنى، حاملاً معه أمتعته وزاده. ولم تكن التكلفة المادية “هينة”، إذ كان الراغب في الحج يبيع عدداً معيناً من أبقاره ليُغطي النفقة، ويترك لأولاده مبلغاً من المال ليكفيهم حتى عودته، وكان المطوفون يقدمون من مكة لإختيار الحجاج وإجراء ترتيباتهم، وأذكر في جواز جدتنا التي قدمت للحج في العام 1966م مكتوب عليه “المطوف/بنقش”.
ولم تكن وسائل الاتصال متاحة كما اليوم، فكان الراديو هو الوسيلة الأساسية التي تطمئن أهل الحاج، حيث يرسلون عبره رسالة يخبرونهم فيها بأنهم وصلوا بأمان، ويرسلون تحياتهم الخاصة لبعض الأهل بالاسم؛ وبسبب ارتفاع التكلفة، لم يكن الحج متاحاً للشباب رغم حاجة الكبار لمن يعينهم في الرحلة، فكانت أُمنية يرجونها. وكانوا يظهرون هذا الشغف حتى في أغنيات العرس، كما في الأغنية التي تقول: “امو بتقول من قلبي بتمني من بعد العرس حجة وكمان عمرة”، مما يعني أن الأسرة تدخر ابنها أولاً للزواج، ثم يبدأ بعدها في تحقيق أمنية أمه بالحج.
وكان من الدلائل على أن الحج كان حلماً يؤجل حتى الكبر، أن أحد حجاج عام 2016 كان من جنوب دارفور ويبلغ من العمر 108عامًا، وأدى الفريضة لأول مرة، مما يؤكد أهمية التشجيع على الحج في سن مبكرة.
ومن العادات الشائعة في السودان أن يتم تمييز بيت الحاج بعد عودته “بطلاء أبيض” على حوائط مدخله، يكتب عليه “حجا مبرورا وسعيا مشكورا (ياداخل هذا الدار صلي على المختار)”، وهي عادة اندثرت الآن. ويظل لقب “الحاج” مُلازماً له، حتى في جلساته، فإذا بدر منه ما لا يليق يتم تذكيره بـ “حج ياحاج”، وكأنهم يقولون له: “هذه الحجة لم تأتِ بالساهل، فلا تضيعها”. وكذلك الأمر للنساء، فتُنبه بـ:”هوي ياحاجة امسكي حجتك”.
ومن العادات أيضاً أن تقيم الأسرة وليمة كبيرة للحاج عند عودته، يدعى لها أهل القرية، وعادة ما تكون وجبة عشاء تتخللها جلسة مديح بالنوبة -الطار- في حب الرسول صل الله عليه وسلم، فينتشي الحضور وكل منهم “يهز” على الآخرين وعلى المادح، ويقدم ما تيسر من مال في كيس يوضع في وسط الحلقة. وأذكر أن أحدهم بكى بشدة خلال إحدى الجلسات، فاعترض عليه “عمنا الطيب” قائلاً: “دة مالو بيبكي؟”، فردوا عليه: “شوقاً لزيارة الحرم المكي وزيارة النبي المصطفى”، فقال له عمنا الطيب: “البكي ليه؟ النبي دربه ما اتقفل، بطل البكاء”، في إشارة ذكية إلى أن الطريق إلى المملكة العربية السعودية أصبح ممهداً ويمكن زيارتها في أي وقت.ومن الأشياء الجميلة أن الحاج عندما يأتي يحضر معه هدايا وكان لزاما عليه أن يوزعها علي كل بيت حيث أنهم باتوا لمباركة الحج وليتمكن من ارضاؤهم جميعا فتنحصر الهدايا في السبحة والطاقية وبعض اللعب للاطفال وكباية صغيرة من موية زمزم يتم إعطاؤها له بالنية (زمزم لما شرب له ) علما بأن جالون ماء زمزم من الأساسيات للحاج رغم صعوبة حمله
وفي العام 1998م، كانت حصة السودان من الحجاج 31 ألف حاج، وهي حصة كانت تُوزع بناء على الإحصاء السكاني -ألف حاج لكل مليون مسلم-. وكان العدد الفعلي للمتقدمين وقتها “9 آلاف” فقط، مما يعني وجود 21 ألف فرصة غير مستغلة، مما دفعنا للقيام بجولة في جميع ولايات السودان عبر المساجد والإعلام لتشجيع الناس وتذكيرهم بشعيرة الحج، خاصة أولئك الذين لا يعتبرون الثروة الحيوانية -مئات الإبل والبقر والضان- ثروةً ويقولون “لسنا مستطيعين”.
وبدأ الإقبال يتزايد شيئاً فشيئاً، حتى وصلنا إلى مرحلة لم تعد فيها الحصة تكفي، وبدأ التزاحم والتدافع على التقديم، مما استلزم التحول إلى نظام رقمي إلكتروني للتوزيع، فأصبحت الحصة تنتهي في أقل من ثلاثة أيام!.
أذكر في عام 2015م، تقدّم “47 ألف” شخص في الأيام الثلاثة الأولى للتنافس على الحصة البالغة 36 ألف حاج، مما استدعى استبعاد “أحد عشر ألف” حاج بنظام القرعة الإلكترونية، مع إعطاء الأولوية لمن لم يحج من قبل.
وأصبح التقديم والقرعة والسداد إلكترونياً، مما أحدث شفافية كبيرة رغم التخوف من مشاكل ضعف الشبكات في بعض الولايات، وأصبح من الواضح ظهور فئة الشباب بنسبة كبيرة بين الحجاج.
واستمر هذا النظام حتى جاءت جائحة كورونا ثم الحرب، مما أدى إلى تناقص الأعداد، التي نتوقع أن تعود قريباً بل وتتجاوز ما كانت عليه، مما قد يضطر القائمين على أمر الحج إلى إعطاء الأولوية أولاً لأداء الفريضة، ثم للمتقدمين في السن.
ايضًا قد تغيرت نظرة السودانيين للحج بعد التطوير الهائل الذي شهدته المملكة العربية السعودية، والذي قلل من فترة مكوث الحاج مع الحفاظ على أداء النسك بشكل صحيح، بل وأضاف راحة وسهولة كبيرتين.
فقد أولت المملكة -تحت رؤية ٢٠٣٠-، اهتماماً كبيراً لتحسين تجربة الحجاج، فأصبح التسجيل واختيار الباقات ودفع التكاليف وإصدار التأشيرات يتم إلكترونياً بالكامل، كما ساهمت التطبيقات الذكية -نُسك- في تزويد الحاج بكل المعلومات والخرائط ومواعيد التنقل، مما يسهل التخطيط المسبق ويوفر الوقت. وأصبح استخدام الباركود على التصاريح يسهل عمليات التفتيش والتنقل بين المشاعر والتحقق من الهوية. كما أن التنسيق المكثف مع دول الحجاج لتنظيم الفحوصات الطبية والتلقيح في بلدهم الأصل يسرع دخولهم عبر منافذ المملكة.
ونتيجة لذلك، أصبح بإمكان الحاج أداء مناسك الحج في 10 إلى 15 يوماً فقط بدلاً من “أشهر”، مع تعزيز السلامة ومنع الازدحام، وتحسين التجربة الروحانية بشكل عام.
لم تكن جهود السعودية مجرد تقليل لفترة المكوث، بل كانت “إعادة هيكلة ذكية” باستخدام أحدث التقنيات والتخطيط العلمي لضمان سلامة وراحة أكثر من مليون ونصف مليون حاج يستقبلهم مطارا جدة والمدينة وميناء جدة الإسلامي سنوياً، بخلاف أكثر من مئتي ألف حاج من الداخل.. ولكل حاج منهم نقول: “حج ياحاج”.

• المدير العام للحج والعمرة الأسبق-السودان،
٠٦ ربيع الأول ١٤٤٧ه‍، ٢٩ أغسطس ٢٠٢٥م.

المطيع محمد أحمد السيد

المدير الأسبق للحج والعمرة-السودان،

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. ما أروع ما خط يراعك شيخنا الحبيب المطيع وبمثل هذا التوثيق تستفيد الأجيال وتتعرف على تاريخها الممتلئ عبيرا من نسمات روح الإيمان في نفوس أهل السودان المحبين للديار المقدسة وما عانوه من مشاق في سبيل إرواء نفوسهم الظامئة لسلسبيل نبع الإيمان ومنبع الهداية ولإطفاء نار الشوق لبيت الله الحرام ولطيب طيبة المطيبة بطيب ساكنها الطيب المطيب حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم
    فجزاك الله خيرا وبارك فيك ونفع بك أخي الحبيب الشيخ المطيع وشكر الله للمملكة السعودية وحكامها وبارك لهم وعليهم وتقبل جهودهم المتعاظمة في خدمة حجاج بيت الله الحرام

اترك رداً على البدري الجعلي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى