المقالات

الحج بالعضلات ومفهوم الاستطاعة

المدير العام للحج والعمرة الأسبق بالسودان

منح الله بعض عباده بسطة في الجسم، فصاروا طوال القامة، عظام الساعد، أقوياء البنية، ومن هؤلاء رجل هيأ نفسه للحج بعد طول انتظار، وتهيأ ببدنه القوي للرحلة المقدسة. وعندما بلغ البيت الحرام امتلأ قلبه شوقًا، غير أن فهمه لمعنى الاستطاعة كان قاصرًا. دخل صحن الطواف بخطى واثقة وسط الزحام، وجعل يدفع الناس بجسده العريض وعضلاته المفتولة، حتى أكمل أشواط الطواف بجهد وعنف لا يليق بمقام العبادة، ثم واصل مدافعته عند الحجر الأسود حتى قبله بعد مشقة أحدثت أذى فيمن حوله، والتفت إلى الجمع قائلاً في نشوة: “الحج استطاعة” ظانًا أن الاستطاعة المقصودة هي قوة البدن وقدرة العضلات.

غير أن الحقيقة أبعد من ذلك بكثير، فالاستطاعة التي أمر الله بها في قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا) هي استطاعة المال والبدن والأمن والعقل، مقرونةٌ بنيةٍ خالصةٍ لله، وخلقٍ رفيعٍ في أداء المناسك دون إيذاءٍ أو تدافعٍ أو تضييقٍ على الآخرين. لقد فهم هذا الحاج ظاهر المعنى وغاب عنه جوهره؛ فالحج ليس ميدان قوة ولا عرض عضلات، بل هو سلوك تهذيب للنفس، وتربية على الصبر، واحترام للمكان والزمان والإنسان.

وفي هذا العصر المبارك، وفّرت المملكة العربية السعودية كل سبل الاستطاعة الحقيقية، فسعت إلى توسعة الحرمين الشريفين على نحو غير مسبوق في التاريخ، وبذلت جهودًا جبارة لتأمين راحة ضيوف الرحمن. ومن أبرز تلك الجهود أنظمة التفويج الذكية، والتطبيقات الإلكترونية التي تنظّم الدخول للطواف والسعي، وتمنع الازدحام، وتحفظ للناس سلامتهم وطمأنينتهم، حتى يتمكن الجميع من أداء المناسك في يسر وسكينة. وما أحوجنا إلى أن ندرك أن اللطف في المناسك عبادة، وأن الرفق بالناس من تمام القربى إلى الله؛ فالمؤمن القوي حقًا هو من يملك نفسه عند الغضب، ويكف أذاه عن إخوانه، ويستشعر أن الطواف والسعي والوقوف كلها مواطن رحمة لا مواقف خصام. فلنتأمل جميعًا ليست الاستطاعة أن تزيح الناس بذراعك، بل أن تفتح لهم الطريق بقلبك، وهكذا نتعلم من الحج.

،

المطيع محمد أحمد السيد

المدير الأسبق للحج والعمرة-السودان،

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى