منذ أن طبّقت وزارة التعليم برنامجها الوليد “حضوري”، تعالت أصوات المعلمين والمعلمات، والنقاد في مجموعات التواصل الاجتماعي، بين مؤيد يراه خطوة لضبط الانضباط والحد من التجاوزات، ومعارض يراه مجحفًا بحق مهنة لها خصوصيتها التربوية والإنسانية.
طلب مني بعض الأصدقاء أن أكتب رأيي، بحجة أن “صوتي مؤثر”. قلت لهم: صوتي اليوم مبحوح من كثرة ما طالبت وناشدت، لكن تقديرًا لمكانة المعلم ورسالة التعليم السامية، قررت الكتابة، مستعينًا بمقولة الراحل غازي القصيبي: “الصحفيون وكتّاب الرأي مستشارون بلا مقابل”. وهنا أجد نفسي مستشارًا مجانيًا لوزير التعليم يوسف البنيان، قائد منظومة التعليم العام.
ومن باب الأمانة وجهت السؤال إلى أحد الخبراء التربويين عن برنامج “حضوري”، أفاد بما يلي:
“المشكلة الكبرى في البرنامج أنه تعامل مع المعلم كموظف إداري، بينما أعباؤه تمتد إلى ما بعد الدوام. المعلم يحضّر، ويقيّم، ويعمل على المنصات، وهذه مهام لا تنتهي. البرنامج قد يصلح للقطاعات الإدارية أو الشركات، لكنه يتعارض مع هدف الوزارة في تمكين المدرسة ومنح قادتها الصلاحيات. حضوري جعل مدير المدرسة بلا تمكين، والمعلم بلا دافعية، وقتل روح الإبداع. المدرسة ليست مصنعًا، بل كيان تربوي واجتماعي وثقافي. حين تُفرغ القرارات من هذا البعد، تصبح سلبية وعديمة الجدوى”.
المشكلة الكبرى في برنامج “حضوري” أنه تبنّى رؤية تايلورية أقرب إلى الإدارة المصنعية “العلمية”، حيث يُختزل الموظف في آلة يُقاس عطاؤها بالدقائق والساعات. غير أن هذا المنهج أثبت عبر التجارب أن تشديد الرقابة لا يؤدي إلا إلى ضعف الدافعية وانطفاء روح الانتماء والإبداع. ومن هنا برزت النظريات السلوكية في الإدارة لتعيد الاعتبار للجانب الإنساني والاجتماعي، مؤكدة أن الاهتمام بالإنسان يزيد من الرضا الوظيفي ويضاعف الإنتاجية.
وفي علم السلوك التنظيمي، يبرز مفهوم سلوك المواطنة التنظيمية الذي يعكس قيم الانتماء والبذل والعطاء بما يتجاوز حدود الوصف الوظيفي. هذه الممارسات التطوعية من العاملين تنعكس إيجابًا على ثقافة المنظمة ومناخها، وهو ما تحتاجه المدرسة لتزدهر بيئة تعليمية محفزة وفعّالة.
لا شك أن الرقابة وظيفة أساسية في الإدارة، وأن الانضباط قيمة مهنية لا غنى عنها، لكن تحقيقها لا يتم عبر نظام إلكتروني جامد، بل عبر مدير واعٍ ومدرِك لأساليب التحفيز، قادر على ترسيخ الثقة، وتقدير الجهود، والاعتراف بالإنجازات. المدير حين يُمكَّن وتُمنح له الأدوات والصلاحيات، يصبح قائدًا محفّزًا، لا مجرد منفذ لقرارات جامدة.
وهنا تبرز قاعدة جوهرية؛ إذ أن القرارات الإدارية الرشيدة تولد من رحم المنظمة وسياقها الثقافي والاجتماعي، منسجمة مع طبيعة مهامها وبُعدها الإنساني. أما حين يُفرغ القرار من هذه الأبعاد، خصوصًا في المجال التربوي، فإن أثره السلبي يكون أكبر، ونتائجه أكثر ضررًا، لأنه يتعامل مع الإنسان في أرقى صور وجوده: معلمًا ومتعلمًا.
المعلم لا يُقاس عطاؤه بوجوده المادي داخل جدران المدرسة، بل بما يبذله من تحضير، وتقويم، وتفاعل مع الطلاب داخل الصف وخارجه، وما يقدمه من مبادرات تتجاوز حدود الزمن الرسمي. وحين يُعامل كموظف إداري، يُسلب دافعيته، ويُقتل إبداعه، وتتحول المدرسة إلى مصنع جامد يفقد جوهره التربوي والثقافي.
ختامًا
يبقى أن نقرّ بأن “حضوري” قد يحمل إيجابيات في ضبط الحضور، لكنه لن ينجح إن بقي مجرد أداة رقابية. المطلوب أن يتحول إلى وسيلة تطويرية تدعم تمكين المدرسة، وتحفظ مكانة المعلم، وتعزز ثقافة الثقة والانتماء. فالمدرسة كيان تربوي حي، لا معمل صامت، والإدارة الناجحة ليست صناعة أرقام، بل بناء إنسان.



رأيكم عميق وملامس لجوهر القضية، وقد أحسنتم الربط بين البعد التربوي والبعد الإداري. بالفعل، المعلم ليس مجرد “حضور وانصراف”، بل هو روح تبني وتربي وتؤثر حتى بعد جرس النهاية. لو تحوّل “حضوري” من أداة رقابة إلى أداة تمكين، لكان خطوة فارقة في تعزيز الثقة، وتحفيز الإبداع، وحفظ مكانة المعلم. شكراً على هذا الطرح المتوازن الذي أعاد النقاش إلى أصله: المدرسة كيان إنساني لا مصنع ميكانيكي.
كفيت ووفيت جزاك الله خير عن كل معلم ومعلمة تأثروا بهذا القرار المجحف وكثير منهم يذهبون الى مدارسهم التي تبعد عن مكان اقامتهم بالساعات نعم المدرسة ليست شركة او مصنع
أشرت إلى بعد مهم جداً وهو الانتماء ، ان طبيعة عمل المعلم والمعلم هي اداء حصص تعليمية ومهام تنظيمية محددة من قبل ادارة التعليم ومدير المدرسة او من باب التعاون مع منظومة العمل
وان المعلمين والمعلمات وصلوا إلى اعلى درجات الانتماء الوظيفي وقويت علاقتهم مع أدارتهم العليا وصاروا يعملون على تعزيز التواصل معها وغرس كل قيمة ايجابية في نفوس المتعلمين
وإن اجراء كهذا يضرب العلاقة بين المعلم وادارته في مقتل ويجعل الانتماء لها شيئاً من الماضي ، وسنرى نتائجه كأثار سلبية عكسية في المستقبل بشئ من الارتداد السئ ان استمر اصرار الوزارة على تخوين موظفيها وإجبارهم على البقاء في الفراغ وأياً يكن هدفها من ذلك لكن حتماً النتائج ستكون خسائر معنوية بعيدة المدى مهما بدت انها مكاسب مادية واقتصادية