قضى الملك عبدالعزيز – رحمه الله – ما يقارب 32 عامًا في معارك توحيد المملكة (القارة)، ولا شك أنه – رحمه الله – خاض معارك كبيرة كان فيها تضحيات ودماء وجراح وفقد ومعاناة. وقد كُللت تلك الجهود المتواصلة بالنجاح الباهر في توحيد البلاد، وجمع شتاتها، ونشر الأمن والاستقرار في أرجائها المترامية، وتوّج ذلك كله بإعلان مسمى المملكة العربية السعودية في عام 1351هـ.
ولم يفرغ الملك المؤسس – رحمه الله – من هذه المعركة الكبيرة حتى واجهته المعركة الكبرى، التي تلخصت في ثلاثة تحديات كبيرة:
- أولها: ترسيخ الأمن، وخاصة في أوساط البدو الذين كانوا يشكلون غالبية المجتمع ويتنقلون من مكان إلى آخر.
- ثانيها: وضع البلاد على مسار التنمية والنهوض.
- ثالثها: توفير مصادر تمويلية لذلك كله.
ترسيخ الأمن وتوطين البدو
لترسيخ الأمن والسيطرة على البدو جاءت الفكرة العبقرية بتوطينهم في الهِجَر – جمع هِجرة – وهي تجمعات سكانية من منازل مبسطة من دور واحد غالبًا. وقد استعان – رحمه الله – بفتوى شرعية تُفضّل حياة الاستقرار على حياة البداوة. فعندما يستقر البدوي في هجرة فإنه يجمع بين حياة البادية المتمثلة في تربية المواشي، وحياة الفلاح القائمة على الزراعة. وكان الهدف الرئيس من توطين البدو هو السيطرة عليهم وضبطهم، والهدف الثاني تكوين قوة عسكرية منهم.
وقد نظمهم الملك عبدالعزيز بطريقة هرمية، بحيث يكون لكل مجموعة شيخ أو مسؤول يستطيع أن يجمعهم في ساعة النفير. وكان قادرًا على جمع أكثر من 25 ألف مقاتل خلال 24 ساعة من مجموع سكان الهجر التي بلغ عددها أكثر من 30 هجرة، بعضها تحوّل إلى مدن معروفة اليوم مثل الأرطاوية والغطغط وحصاة قحطان. أما الهدف الثالث فكان تقديم الخدمات لهم، وفي مقدمتها التعليم والصحة، إذ لا يمكن مطاردة البدو المتنقلين وتقديم هذه الخدمات لهم دون استقرار.
مسار التنمية
أما التحدي الثاني فتمثل في وضع البلاد على مسار التنمية والنهوض بها. فبدأ المؤسس بتأسيس مديريات كانت نواة لكثير من الوزارات فيما بعد، مثل مديرية الأمن، ومديرية الصحة، ومديرية التعليم.
غير أن هذه المديريات وتقديم الخدمات – سواء للبدو المستقرين في الهجر أو لسكان التجمعات الحضرية مثل مكة المكرمة وجدة والمدينة والرياض والأحساء وغيرها – كانت تحتاج إلى مصدر تمويلي ثابت.
اكتشاف النفط
هنا استحضر الملك عبدالعزيز – رحمه الله – ما رآه في البحرين أثناء مروره بها في طريقه إلى الكويت وهو شاب صغير، حيث شاهد آلات استخراج النفط. ولاحظ أن طبيعة المنطقة الشرقية تشبه طبيعة البحرين، فاستنتج بذكائه أن في أرضها نفطًا. وبالفعل، وقع اختياره على شركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا للتنقيب.
وبعد عدة محاولات، وصلت الشركة إلى قناعة بعدم وجود النفط، لكن أحد المهندسين أصر على محاولة أخيرة في البئر رقم (7). ومن حسن الحظ وُجد النفط بكميات تجارية في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين. غير أن اندلاع الحرب العالمية الثانية أخّر الاستفادة من عائداته، حتى بدأت المملكة بعد الحرب في جني ثمار النفط تدريجيًا، ومعها بدأت مرحلة ترقية المديريات إلى وزارات، ودخول منتجات الحضارة الحديثة مثل السيارات، والإذاعة، والكهرباء.
وظل النمو بطيئًا حتى جاء عهد الملك فيصل – رحمه الله – الذي قاد قرار قطع النفط عن الدول المؤيدة لإسرائيل، فتضاعفت الإيرادات أكثر من 30 ضعفًا، وبدأت مرحلة الطفرة الأولى التي غيرت وجه المجتمع السعودي.
نجاح المعركة الكبرى
لقد نجح الملك المؤسس – رحمه الله – في معركته الكبرى، التي تمثلت في:
- توطين البدو والسيطرة عليهم وتكوين قوة عسكرية منهم.
- وضع المملكة على مسار التنمية بإنشاء مديريات تحولت إلى وزارات.
- تأمين مصدر مالي لتمويل التنمية عبر اكتشاف النفط وتصديره.
رحم الله الملك عبدالعزيز وأسكنه فسيح جناته، فقد كان له – بعد الله – الفضل في جمع شمل هذه البلاد وشتاتها، ووضعها على طريق النمو والازدهار، في ظل أمن راسخ ووحدة وطنية قوية




