حين رأيت رجلاً في أحد المقاطع المصورة يشبهني ملامحًا وجلوسًا وحديثًا، وقعت في لحظة دهشة عميقة. لم يكن الأمر مجرد تشابه في الشكل، بل مرآة كشفت لي ذاتي: هدوء في العيون، وقار في الملامح، ورغبة في الطمأنينة التي أتمناها وأنا أعبر العقد السابع من عمري. هنا أدركت أن رؤية الذات في الآخر ليست تقليدًا أعمى، بل تجربة وجودية تعكس التعاطف العميق وإدراك التجارب الإنسانية المشتركة.
مسارات مختلفة للرضا
في هذا التأمل، بدا الاختلاف الوحيد بيني وبين ذاك الرجل في مسألة الزواج. وأنا اليوم أقولها بامتنان: تزوجت وكنت سعيدًا. لقد كانت الزوجة رفيقة الدرب، وكان الأبناء مدرسة العطاء بلا حدود. خمس بنات كالنجوم، وولد كالسند، كل منهم عالمٌ أفتخر به وأحمد الله على نعمة وجودهم. هكذا تتنوع مسارات السعادة، ولا يتفرد طريق واحد بامتلاكها.
العمر ليس الخوف… بل العجز
كثيرون يخشون التقدم في العمر، لكن الخوف الحقيقي ليس من مرور السنوات، بل من فقدان القدرة والاستقلالية. حين نقلب المعادلة، يصبح السؤال أكثر إيجابية: كيف أحافظ على صحتي الجسدية والنفسية؟ كيف أعيش حياة متوازنة؟ هنا يتحول القلق إلى دافع للعمل، بدلًا من أن يبقى عبئًا يثقل الروح.
دستور الحياة: إعطاء كل ذي حق حقه
يبقى التوازن هو الحل، هنا تبرز الحكمة النبوية في الحديث النبوي الشريف: «إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كل ذي حق حقه»، وهو دستور وجودي يوجهنا نحو التوازن بين العبادة، العناية بالنفس، والمسؤولية تجاه الأسرة.
• حق الله: بالشكر على النعم، والصبر على الابتلاء، والطمأنينة بالإيمان.
• حق النفس: بالعناية بالصحة والراحة، لتبقى قادرة على العطاء.
• حق الأهل: بالوفاء للأبناء والأسرة، حضورًا ورعاية ونصحًا.
هذا التوازن ليس فكرة مجردة، بل ممارسة يومية تحفظ للإنسان اتزانه، وتجعل العمر أكثر هدوءًا وامتلاءً.
فلسفة العمر الهادئ
هكذا تتحول الفلسفة من فكرة مجردة إلى ممارسة يومية تحفظ للإنسان اتزانه. وفلسفة حياة أسميها “فلسفة العمر الهادئ”، وهي تقوم على ثلاث دعائم:
1. تحويل الخوف إلى عمل إيجابي: بدلاً من الخوف من التقدم في العمر، يمكننا تحويل هذا القلق إلى جهود للحفاظ على الصحة والحيوية. العمر ليس عدوًا، بل العجز هو التحدي.
2. التعلم من الآخر دون ندم: رؤية الذات في الآخر ليست دعوة للمقارنة السلبية، بل للتأمل في نقاط القوة والرضا بمسار حياتنا. أنا راضٍ عن حياتي – زواجي، أبنائي، إنجازاتي – لكنني أرى في الآخر مرآة لما يمكنني أن أصبح عليه.
3. التوازن كدستور حياة: التوازن هو مفتاح الحياة الهادئة. إعطاء كل ذي حق حقه – الرب، النفس، الأهل – يضمن سلامة القلب، صحة الجسم، واستقرار الأسرة. هذا التوازن هو مصدر الرزانة والهدوء الذي أراه في تلك الشخصية وأطمح إليه.
هكذا تتحول الفلسفة من فكرة مجردة إلى ممارسة يومية تحفظ للإنسان اتزانه.
نحو الشيخوخة الواعية
المستقبل ليس سلسلة أعوام تنتظرنا بقلق، بل فرصة جديدة لحياة أكثر وعيًا. الشيخوخة الواعية تعني أن نستقبل العمر كصديق لا كخصم، وأن نرسم ملامحه يومًا بيوم بخطوط من الرضا والعمل المتزن.
وأنا أنظر إلى الأمام، أرجو أن يمنحني الله الصحة لأعيش كبراً كما أراد لي، وأن أستقبل آخرة عمري وأنا راضٍ بما قسمه الله لي. الرضا ليس استسلامًا، بل ثمرة يقين بأن الله لا يقسم إلا خيرًا.
اللهم اجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وارزقني الرضا حتى ألقاك.



