كيف يمكن لمنظومة التعليم العام، وسط تعدد الجهات وتداخل الأدوار، أن تبني متعلمًا سعوديًا قادرًا على المنافسة عالميًا؟
إنه سؤال لا ينتقص من قيمة الجهود المبذولة، لكنه يكشف الحاجة إلى منظومة متكاملة تنتقل من العمل المتوازي إلى تكامل فعلي يضاعف الأثر.
فالوزارة تؤدي دور المظلة وصاحبة القرار، ويسهم المعهد الوطني للتطوير المهني في رفع كفاءة المعلم ببرامج مستمرة، ويعمل المركز الوطني لتطوير المناهج على تصميم محتوى يتناغم مع رؤية المملكة 2030 وكفايات القرن الحادي والعشرين.
وتتولى هيئة تقويم التعليم والتدريب ضبط الجودة وضمان التحسين المستمر، فيما تضيف مؤسسة موهبة بُعدًا نوعيًا عبر اكتشاف الموهوبين ورعايتهم وتأهيلهم من خلال برامج ومنافسات عالمية.
ورغم وضوح هذه الأدوار، ما تزال المنظومة — في كثير من الأحيان — تعمل في مسارات متوازية أكثر منها حلقات مترابطة.
فالمدرسة — وهي القلب النابض للعملية التعليمية — تكون غالبًا آخر من تصلها البيانات، وأول من تُحاسَب على المخرجات. غير أنها لا ينبغي أن تبقى محطة استلام متأخرة، بل يجب أن تتحول إلى بوابة انطلاق للتطوير؛ حيث تُترجَم نتائج التقويم المدرسي والاختبارات إلى خطط عملية تقود أداء المعلم وتوجّه أساليب التدريس.
إن التحدي الرئيس لا يكمن في غياب الجهود أو شُحّ البيانات، بل في ضعف الترابط المؤسسي. فالمناهج والتدريس والتقويم والتطوير المهني تعمل — في غير قليل من الحالات — بصورة منفصلة، دون حلقة تغذية راجعة مغلقة تبدأ بالتشخيص، وتمر بالتنفيذ والقياس، وتنتهي بالتحسين.
وهكذا تبقى البيانات — على كثرتها — عاجزة عن التحول إلى قرارات قابلة للتنفيذ داخل المدرسة.
ويتضح ذلك في أمثلة بيّنة: فالمصفوفة الوطنية لنواتج التعلم لا تزال عامة، وتحتاج إلى تفصيل يحدد التوقعات لكل مادة ومستوى مع أوصاف معيارية يهتدي بها المعلم. كما أن البيانات المتاحة عبر المنصات تعمل في جزر منعزلة، فتُضعِف قدرتها على رسم صورة متكاملة لرحلة الطالب والمعلم.
وتتكرر الفجوة كذلك في نتائج التقويم المدرسي واختبارات «نافس» — التي شملت أكثر من 1.3 مليون طالب في نحو 26 ألف مدرسة عام 2025 — إذ لا تتحول غالبًا إلى خطط تدريبية أو مراجعات منهجية دقيقة. ويُضاف إلى ذلك أن نتائج الرخص المهنية للمعلمين — بما تكشفه من فجوات تخصصية وتربوية — لا تُستثمر بالقدر الكافي لتوجيه خطط التطوير المهني.
وتتسع المشكلة مع غياب مبدأ «تكامل الأدلة» بمعناه الواسع؛ إذ يُفترض أن تتقاطع عدة مصادر: بيانات الصف، والتقويم المدرسي، ونتائج «نافس» والاختبارات الدولية، إضافة إلى نتائج الرخص المهنية للمعلمين. وحين لا تُقرأ هذه الشواهد في إطار واحد، تصبح القرارات مبنية على أجزاء متناثرة لا على صورة مكتملة.
وعلى الصعيد الدولي، ورغم التحسن الذي حققته المملكة في PIRLS (19 نقطة في القراءة) وPISA (16 نقطة في الرياضيات)، تكشف النتائج عن قصور في التفكير النقدي والمهارات التطبيقية.
وهذه الفجوات لا يمكن تجاوزها إلا بتطوير مهني مستند إلى البيانات، ومراجعة مستمرة للمناهج تضمن انعكاس التحسن داخل الصف الدراسي.
أما برامج الموهوبين، فبرغم إنجازاتها العالمية، فإن أثرها داخل المدارس ما يزال محدودًا؛ إذ لا تتحول خبراتها إلى ممارسات صفية متاحة للجميع، مما يعمّق الفجوة بين التعليم الاعتيادي ومسارات التميز.
فإذا أظهرت نتائج «نافس» ضعفًا في الفهم القرائي مثلًا، وجب أن يقود ذلك إلى تدريب مستهدف للمعلمين ومراجعة للمناهج؛ وبالمثل ينبغي أن تُترجَم خبرات «موهبة» في تنمية التفكير الناقد وحل المشكلات إلى وحدات إثرائية يستفيد منها جميع الطلاب، لا فئة محدودة فحسب.
من هنا، تبرز الحاجة إلى نموذج تشغيلي لحلقة تغذية راجعة مغلقة، يضمن أن تتحول البيانات إلى قرارات، والقرارات إلى ممارسات، والممارسات إلى نتائج قابلة للقياس.
وذلك ينسجم مع مستهدفات رؤية المملكة 2030 التي لا تكتفي برفع مستوى المؤسسة التعليمية، بل تسعى إلى بناء كفايات مستقبلية للمتعلمين — التفكير النقدي، والابتكار، والقدرة الرقمية — بما يعزز قدرتهم على المنافسة عالميًا ضمن برنامج تنمية القدرات البشرية.
ولتحقيق ذلك، تُقترح خارطة طريق تعيد صياغة العلاقة بين المكونات التعليمية على ست ركائز رئيسة:
1. إطار وطني للتكامل يحدد الأدوار بدقة ويوحّد الأهداف تحت مظلة مشتركة، لضمان وحدة المسار من الصف إلى التخرج.
2. مركز قيادة معلوماتي عبر تطوير منصة «حالة التعليم» لتصبح لوحة تحكم وطنية شاملة تدمج بيانات التقويم المدرسي و«نافس» والاختبارات الدولية ونتائج الرخص المهنية، وتُفعِّل «تكامل الأدلة» لاتخاذ قرارات أدق.
3. حلقة تحسين مستمرة تبدأ من تطوير المناهج ويواكبها تدريب المعلم استنادًا إلى بيانات الأداء ونتائج الرخص المهنية، لتتحد عمليتا التعليم والتعلّم في دائرة واحدة.
4. حوكمة مشتركة عبر مجلس وطني للتكامل التعليمي ينسّق بين الكيانات الرئيسة (وزارة التعليم، هيئة التقويم، مركز تطوير المناهج، المعهد الوطني للتطوير المهني، مؤسسة موهبة) لضمان ترابط القرارات وتنفيذ التحسين.
5. مقارنات معيارية دولية تربط المؤشرات الوطنية بـPISA وTIMSS وPIRLS، وتستنير بالممارسات العالمية الرائدة في المناهج وتدريب المعلمين.
6. دمج مسارات الموهبة في التعليم العام كي تتحول إلى رافعة للتميز الشامل عبر وحدات إثرائية ومسارات متقدمة داخل المدارس ترفع سقف الطموح للجميع، لا للنخبة فقط.
إن قيمة هذه الخارطة أنها لا تكتفي بتشخيص الفجوات، بل تقترح آلية عملية لتحويل الجهود من مسارات متفرقة إلى شبكة مترابطة: تجعل البيانات لغةً مشتركة، والمناهج نقطةَ انطلاق، والتدريب قوةً فاعلة، والتقويم حلقةً واصلة، و«موهبة» رافعةً للتميز، ونتائج الرخص المهنية بوصلةً للتطوير، ومصفوفة نواتج التعلم مرجعًا ضابطًا وموجِّهًا.
ولا يُقاس نجاح التكامل بعدد المنصات أو المؤشرات، بل بقدرة الطالب على اختبار أثره في تعلمه اليومي: محتوى متسق مع قدراته، ومعلم مُدرّب يهتدي ببيانات دقيقة، ووليّ أمر يتلقى تقارير واضحة تربط أداء ابنه بالمستوى الوطني. عندها فقط يتحقق الهدف النهائي: متعلم سعودي قادر على المنافسة عالميًا.
وبذلك تتشكل دورة متكاملة يكون مخرجها متعلمًا يمتلك معارف ومهارات وقيمًا تضاهي أقرانه في الدول الأكثر تقدمًا. فالتعليم العام هنا ليس مرحلة تأسيسية فحسب، بل ركيزة محورية في تحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030، وقاعدة صلبة لبرنامج تنمية القدرات البشرية.
اليوم يقف التعليم السعودي أمام لحظة حاسمة: انتقالٍ من التوازي إلى التكامل، ومن المبادرات الجزئية إلى الأثر الممنهج. تلك هي الخطوة الفاصلة نحو بناء متعلم عالميّ التنافسية؛ حيث تُصبح البيانات قصة نجاحه اليومية، ويغدو المعلم شريكه الحقيقي في الرحلة، وتتحول المدرسة إلى مركز قيادة يبدأ منه كل تحسين.
أستاذ القيادة التربوية
المدير العام للتعليم بمنطقة مكة المكرمة – سابقاً-





