يبدو أن منطقة الشرق الأوسط تتجه نحو نظام دولي جديد، بعد أن اتسعت دوائر الصراع في المنطقة، فغرقت في وحلها أطرافٌ إقليمية عديدة تحت وطأة قوى كبرى ومصالح عليا، خلقت أكبر وأشهر مأساة إنسانية في قطاع غزة، وأفرزت خلفها مجموعة من العوامل المتشابكة التي لا تخلو من فسيفساء عِرقية ودينية، أدخلت المنطقة في دوامة نزاعات داخلية وتحديات إقليمية، من منظور أولئك الذين يروننا أمة واحدة، بينما نحن اليوم ألف أمة!
والحقيقة أن الأمر لم يعد سرًّا؛ فالولايات المتحدة هي اللاعب الخفي الذي يقف خلف كل صراعات الشرق الأوسط، منذ أن تولّت رضاعة ذلك الكيان اليهودي المحتل عام 1948م، فكانت سببًا في كل تلك المتغيرات التي ملأت سماء وأرض المنطقة، حتى أصبحت اليوم من أقل مناطق العالم أمنًا واستقرارًا، ومن أكثرها نزوحًا وتهجيرًا.
ومن المعروف أن ذلك الكيان البغيض لا يستطيع وحده فتح كل تلك الجبهات الحربية في وقت واحد كما يقول المحللون؛ فمعنويات جيشه تدهورت، ومخزونات أسلحته تقلّصت، ولولا دعم الولايات المتحدة المادي واللوجستي – الذي تجاوزت به كل الخطوط الحمراء – لما استطاع الصمود. لقد دفعت الأمة إلى تقسيم المنطقة، فصنعت – كما تريد – حكومتين في كلٍّ من فلسطين واليمن وليبيا والسودان… إلخ.
ولا غرابة إذن أن يستغل ذلك الكيان الصهيوني ولاية ترامب الثانية وسياساته المتناقضة، خصوصًا تجاه منطقتنا، التي رأينا منها طلباته الغريبة حينما يطالب حكومة لبنان بنزع أسلحة حزب الله، ومن مصر استقبال اللاجئين، ومن حماس تسليم أسلحتها، ومن إيران تفكيك مفاعلاتها النووية، ويطلب من قطر الاستعداد للمفاوضات، وهو من أذن بقصفها!
وهو أيضًا من أشغل وسائل الإعلام بتصريحاته التلفزيونية الكثيرة، وجعل من نفسه “بطل السلام”، وكأنه وحده من يستحق جائزة نوبل! مع أن نتنياهو هو من جرَّه وجرَّ أمريكا إلى حروب ظالمة في أفغانستان والعراق، واليوم في غزة، بعد أن صُوِّر له أن حماس جماعة إرهابية لا شرعية لها، ويسهل ابتلاعها، وما علموا أن تلك الفئة القليلة من الحمساويين يدركون أن النصر لا يأتي إلا بالتضحيات، فقدّموا خططًا عسكرية نادرة في غزة لقّنوا فيها اليهود دروسًا في حروب الشوارع والمدن لأكثر من عامين، لأنهم أهل الأرض وأصحاب الحق.
لقد فعلوا ما لم يفعله غيرهم، لولا شعورهم بمعاناة أهلهم في القطاع من قتلٍ وحصار، فماذا يفعلون أمام أمام آلة نتنياهو المسعورة من صهاينة شذّاذ الآفاق، الذين يستمتعون بالقصف ويتلذذون بتعذيب العزّل؟!
وهو السبب الذي جعل العالم كله يقف في كفة، والكيان وأمريكا في كفة أخرى، ومن هناك رأينا ذلك الحراك السياسي في الأمم المتحدة الذي قادته المملكة العربية السعودية في مشهدٍ لافت، مع بعض أصدقائها، نتج عنه اعتراف أربع عشرة دولة من دول العشرين بدولة فلسطين، فكانت ردة الفعل الأمريكية غاضبة؛ إذ وجدت نفسها شبه معزولة أمام سياسات ترامب الاستبدادية وغطرسته النرجسية، كما يرى المراقبون السياسيون.
ثم جاء إعلان بيان السلام بين إسرائيل وحماس، المعروف بـ خطة ترامب، التي لا تزال تقبع تحت سماء البيانات الرسمية والاعترافات الإعلامية، وهي تترنح تحت ضغوط موازين قوى مختلفة، فاجأت فيها حماس الأوساط السياسية عامة بموافقتها المبدئية على الخطة، لكنها تحتاج إلى بعض الوقت لدراسة تفاصيل بنودها القاسية.!






