في سُلَّم المراتب الأكاديمية، تبدأ المسيرة بـ«مدرّسٍ» يحاول أن يثبت نفسه بين قاعات المحاضرات وأرفف المراجع، ثم يصعد الدرجات عبر «الأستاذ المساعد» و«الأستاذ المشارك»، حتى يبلغ ذروة المجد العلمي: «الأستاذية الكاملة». تلك الرتبة التي تشبه وسام الفروسية في مملكة العقل، حيث يصبح الاسم مقترنًا بالعلم إلى الأبد.
لكن رحلتي الأكاديمية سلكت منعطفًا غير متوقَّع. فبعد أن عرفت دفء الحرم الجامعي، وعبق الكتب القديمة في المكتبات، وروعة الحوار مع الطلبة، وجدت نفسي فجأة في عالم مختلف تمامًا: عالم البروتوكولات والسفارات، حيث تُقاس القيم بالمناصب لا بالمراجع، وتُدار النقاشات بلباقة أكثر من عمق.
ولأن المزج بين العالمين كان صعبًا، اخترعت ، من باب الطرافة، إختصارا (abbreviation) لكلمة: السفير الدكتور، يجمع بين الجلال العلمي والهيبة الدبلوماسية »، وهو« س. د. »، وهو لقب يذكّرني بأن جذوري ضاربة في تربة الجامعة، حتى وإن كنت اليوم أتحدث في قاعات المؤتمرات بدلًا من قاعات الدرس.
الحرمان الأنيق
عندما عُيّنت وكيلًا لوزارة الإعلام ثم سفيرًا، تمنّيت أن أواصل تدريس مادة جامعية واحدة على الأقل. طرحت الفكرة على زملائي في قسم العلوم السياسية بحماسة، فقوبلت بابتساماتٍ خجولة ممزوجة بدهشة. همس أحدهم:
«أتطمع أن تكون أستاذًا ووكيلاً في آنٍ واحد؟!»
لم أُغضب من السؤال، فقد كانوا يحاولون ـ بطريقتهم ـ حمايتي من إرهاقٍ لم أكن أخشاه. لكن ما آلمني حقًّا لم يكن الرفض، بل الحرمان من رائحة القاعات الدراسية؛ من عبق الطباشير وغبار الكتب وطاقة الشباب المتوثبة نحو المعرفة. إنه حرمان من وطنٍ روحيٍّ لا يُعوَّض.
ذكريات لا تموت
لن أنسى يومًا تلك اللحظة في جامعة تورنتو، عندما دعاني رئيس قسم العلوم السياسية لإلقاء محاضرة وأنا سفير لبلدي في كندا. قدّمني بكلمات لطيفة، واصفًا انتقالي إلى الدبلوماسية بـ«الترقية».
لم أتمالك نفسي إلا وأصحح مبتسمًا:
«بل اسمح لي أن أصحّح المفهوم يا صديقي. لم أترقَّ لأصبح سفيرًا، بل انتقلتُ إلى وظيفةٍ أخرى. أما الترقية الحقيقية، فهي تلك التي تضعك على كرسي الأستاذية هنا، في الجامعة. فلا شرفَ أسمى من التدريس.»
ضحكت القاعة بأكملها، لكنهم أدركوا المغزى: المعرفة أبقى من أي منصب عابر؛ فالمجتمع كثيرًا ما يضع المناصب السياسية في قمة الهرم، بينما يبقى هرم المعرفة هو الأبقى والأرفع.
الجامعة… الوطن الأول
الجامعة بالنسبة لي ليست مؤسسة تعليمية فحسب، بل وطنٌ روحيّ. هناك تتحدد قيمة الإنسان بعدد العقول التي ألهمها لا بعدد الوفود التي قابلها، وبما قدّمه من فكرٍ لا بما حمله من أوسمة.
العمل الدبلوماسي شرف كبير، فهو يخدم الوطن في الخارج، لكن التدريس يخدم الإنسان في جوهره. لذلك، ظللت أرى نفسي «أستاذًا في إجازة طويلة»، قد يعود يومًا ليستكمل مشروعه الحقيقي: التعليم.
بين اللقب والذاكرة
بعد التقاعد، استمر جواز سفري الدبلوماسي يعرّف بي بعبارة:
«السفير الدكتور عبدالعزيز بن حسين الصويغ، سفير متقاعد وعضو مجلس شورى سابق.»
حتى جاء أحد رؤساء المراسم في الوزارة ليقترح حذف كلمة «السفير»، والاكتفاء بلقب «الدكتور»، مبرّرًا ذلك بأن البروتوكول يقتضي الاختصار!
ابتسمت، ولم أجادل. ربما أراد الرجل أن يترجم رؤيتي عمليًّا، حين قلت ذات يوم إن لقب «أستاذ» أرفع من أي لقبٍ آخر. وربما أراد أن يعيدني ـ دون أن يدري ـ إلى مقعدي الأول في الجامعة. وهكذا وجدت نفسي أردد ما غيّرته ساخرًا من أغنيةٍ قديمة:
أنا زي ما أنا… وإنت اللي بتتغيّر
أنا هو أنا… وإنت كده صغير
ولا أدري الآن: ماذا كتبوا في جواز سفره بعد تقاعده هو؟!
ما يبقى
قد تزول السفارات، وتُغلق القاعات الرسمية، وتتعاقب الحكومات. لكن اسم «الأستاذ» المنقوش على باب مكتب جامعي، سيظل شاهدًا على إرثٍ لا يزول. ذلك هو اللقب الوحيد الذي لا «ترقية» بعده، ولا بروتوكول يعلوه، ولا جواز سفرٍ يختصره.



