المقالات

عندما تُعَزُّ الأفراح وتتأخّر

وأخيرًا، توقّفت الحرب بعد مماطلاتٍ من جميع الأطراف بلا استثناء.
إسرائيل كيانٌ محتلٌّ ومستعمِر، ورئيسها مجرم حربٍ وفاسد يحكم بلده المغتصَبة، وهو نفسه يُحاكم في قضايا جنايات وفساد. ولا أعلم كيف في دولٍ يزعمون أنها تسودها العدالة، يرأسها زعماء فاسدون كما هو الحال في إسرائيل وأمريكا، وسبقهم رؤساء مثل ساركوزي، ولا أعلم إن كان لا يزال ساركوزي أم صار «كوزي»!

أما حماس، فقد سبّبت المأساة بفعلٍ ارتجاليٍّ لم تُجرَ فيه أيُّ حساباتٍ للعواقب والمصائب التي قد تحدث، وكأنها كانت تظن أن إسرائيل ستأتي متذلّلة، وتقبّل أيدي الحماسيين، وتقول: «طال عمرك يا سيدي، سامحنا».
أبسطُ دولةٍ لن تسمح بذلك، فكيف بكيانٍ يرأسه متطرّفون لا يرتوون إلا من دماء البشر، وخاصة دماء الفلسطينيين التي تروي غليلهم؟

واصلت حماس اتخاذ مواقف لم تُراعَ فيها تلك الدماء، وكأنها مياهُ بحرٍ مالحة تصبّ في أرضٍ قاحلة.
نعم، انتهت الحرب لأنها استنفدت معظم أغراضها، أو هكذا أراد لها ذلك الشخص الذي يرتدي قبعة «الكابوي»، بعد ضغطٍ واضحٍ وملموسٍ من زعماء العالم العربي الفاعلين، لا أولئك الذين لا يملكون إلا «طَقّ الحنك».

وسيظهر بلا شكٍّ من يدّعي وصلاً بليلى من المهايطين الذين ألِفوا الفشخرة وضرب الصدر على لا شيء، وربما أيضًا يظهر بعض «الشبيحة» مثل الحوثي ورفاقه، مدّعين أن صواريخهم هي من أوقفت الحرب، وهي التي – في أفضل حالاتها – لم تزد إلا من نار غزة اشتعالًا.

لم تتوقف الحرب إلا بثقل الموقف السياسي العربي، وبالذات السعودية وقطر والإمارات، ثم الأردن وتركيا وباكستان وإندونيسيا، وقد بدا ذلك واضحًا إثر اجتماعهم مع ترامب في نيويورك.
فترامب يهمه أمران: أن يُعرف بأنه «ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع القبعة تعرفوني»، والآخر هو البُعد الاقتصادي، وهو ما لا يملكه لا الحوثي ولا الإيراني ولا من يدور في فلكهم.

لنترك ذلك وراء ظهورنا.
هل رأيتم كيف استقبل أهل غزة ذلك النبأ العظيم؟ وكيف كانت فرحة الأطفال الذين هم في عمر الزهور؟ بل إن بعض الزهور – في خضم معركة غزة – عاشت أكثر من بعضهم، ووجدت الماء والرعاية التي لم تتوفر لهؤلاء البراعم.

أشاهدتم كيف يرقصون طربًا وابتساماتٍ لا حدود لها على وجوههم؟ حتى علامات الفرح تكاد تتعدّى المسافات الصغيرة على وجناتهم، فهي لا تتسع لهذه الحالة من الفرح العفوي الهستيري، وكأن الوجنات تعتذر لأصحابها قائلة:

«ليت عندي مساحاتٍ أكبر لتفرحوا أكثر».

وأنا أتابع ذلك المشهد العظيم، رأيت فيه معاني لا حصر لها من الفرح المؤلم لشِدّته.
هل يوجد في أيّ قاموس «فرح مؤلم»؟ نعم، في قاموسي يوجد، وربما في قواميسكم أيضًا.
إنه فرحٌ يستحق السعادة، ولكن لماذا تأخّر؟ لماذا ظلّ تحت أنياب «سيبك للزمن» الذي لا يرحم ولا يُقدَر عليه؟

لماذا كان هذا مجرّد عِزّةٍ في الإثم؟
راح ضحيته الآلاف من الأبرياء الذين ربما يُحسَدون لأنهم ذهبوا ولن يعودوا، فارتاحوا من عبء معايشة الآثار التي سيعاني منها الغزّيون لعشرات السنين؛ من أمراضٍ نفسيةٍ مرعبة، ومن مشاهدَ تُذكّرهم دومًا بما فقدوه:
إنسانٌ بعينٍ واحدة، وآخر يسير بلا قدمين، وثالث فقد نصف جسده بنَهَم النفس الإسرائيلية السوداوية.

أما الأحياء، فحملوا عبئًا لا يُطاق؛ فلا أشدّ من مقاتلة النفس وترويضها لتحمل البؤس. سيكون كابوسًا طويل الأمد، يمكن اختزاله في عبارةٍ واحدة:

حتى على الموت لم أَخْلُ من الحسد.

لم يحسّ بالفرحة مثل الأطفال؛ فهم من لم يذهبوا إلى المدرسة، ولم يتذوّقوا رشفة حليب، ولم يناموا ليلة مطمئنين، وفقدوا من يعولهم ويرعاهم، فأحسّوا بالوحدة المريرة قبل أوانها.
الطفل الذي كان يلعب مع ابن جاره مساءً، نام وصحا من نومه وذهب ليلعب معه في الخيمة المجاورة، فقيل له:

«مات صاحبك يا ولدي، البقية في حياتك».

ستُعمَّر مباني غزة التي هُدمت، لكن من يُعمِّر أجساد ونفوس نسائها وأطفالها؟ بل كل كائنٍ حيٍّ فيها، فغزة كانت أمَّهم وأهلهم وروحهم وحلمهم.

إذا أردت أن تعرف ما جرّته الحرب وسبّبته من ويلات، فانظر إلى هؤلاء الأطفال وابتساماتهم عندما سمعوا بوقف النار.
وإذا أردت أن تعرف مدى ما تعنيه عبارة «انتهت الحرب» من سعادة، فانظر إلى من خرجوا يرقصون الدبكة الفلسطينية التي افتقدت الأفراح والأعراس ولمّة العائلة وهي تحتفل بطفلٍ وُلد حالًا.
وجدلٌ محبّب بين الأب والأم: ماذا نسمّيه؟ سلامٌ ليكون ختامًا لفترةٍ تعيسة، أم حربٌ حتى لا ننسى؟

وسؤالٌ يُلحّ: ماذا بعد؟
ماذا نسمّي تلك الابتسامات؟
لا شك أنها ابتساماتُ ألمٍ وفرحٍ اختلطا، فلم نعد نميّز أيهما أشدّ، وأيهما أصدق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى