تبدأ حياتك الدنيا في ضعف واضح، وقدرات بسيطة وإن كان هذا الضعف في الطفولة هو مصدر للفرح وللسعادة، كما هو مصدر للحب والرحمة لك عند الآخرين، وكل اعتمادك يكون على من هم حولك من أسرتك وفي مقدمتهم الأم والأب والأخوان والأخوات إضافة إلى الحاجة لذوي الرحم من الدرجة الأقرب.
ويمتد هذا الضعف الإنساني وإن اختلف نوعاً ما عن المرحلة الأساسية وأنت تجلس على صفوف المقاعد الدراسية الأولى التي شعارها قديماً مبني على المقولة الشهيرة: “اللحم والعظم” فاللحم للمدرسة والعظم للبيت وإن كان على أرض الواقع لا هناك لحم ولا هناك عظم وإنما المقصود من الآخر استخدام الضرب المؤلم بلا أي عتب وبلا أي حدود؛ لضبط الأدب في نفوس الناشئة.
وبطبعية الحال انتهت هذه المقولة المتوارثة تماماً جيلاً بعد جيل في الوقت الحاضر الذي يعتمد على نظريات وقوانين الثواب والعقاب وعلها تُجدي..! وأصبح الخوف من أن يأتي الضرب من الطرف الآخر..!! ولكن في حالات نادرة لا ترتقي إلى المشكلة أو حتّى الظاهرة ولله الحمد ومن المؤكد أن النادر لا حكم له في كل الظروف.
ويمضي بك الوقت حتّى تنتقل من مرحلة الدراسة العامة إلى الدراسة الجامعية انتظاراً للوظيفة المرتقبة في قادم الأيام فمن كان حظه في مستوى عالٍ كان تعيينه في وظيفة مرموقة، ومن كان حظه أدنى كان نصيبه في وظائف أقل اهتماماً وقد يزيد الحظ سوءاً حين تكون المسافة بين مقر العمل ومقر السكن تستلزم استخدام الوسائط الجوية في الذهاب والإياب.
وتنطلق بشخصك نحو الحياة الوظيفية الجديدة وأنت تحمل معك وفي نفسك كل المشاعر الجميلة والطموحات الكبيرة والآمال العظيمة والتي لا تتوقف في كل وقت وحين، وقد تفرط كثيراً في التفاؤل لدرجة الانفصال عن الواقع المشاهد، وقد تتمادى أكثر في الأمل لدرجة نسيان الحقيقة الماثلة.
وفي أول يوم وظيفي تشعر أنك في قمة الفرح والنشوة وكأنك الموظف الوحيد الذي يحظى باهتمام بالغ ومتابعة واضحة من زملائه الجدد وفي حقيقة الأمر أنه مجرد روتين وظيفي متعارف عليه منذ البدايات الأولى من حيث الاحتفاء والتكريم بالموظف الجديد وهو من التقاليد الوظيفية الأصيلة.
وتتلاشى هذه الحالة بمرور الوقت حتّى تشعر بالأعباء الوظيفية الثقيلة المتتالية أيا كانت هذه الوظيفة، ومع تقدم الأيام يلعب الحظ، ومعرفة أصول تفاصيل الموقف دوراً أساسياً في حياتك الوظيفية فإما أن تحظى بالكثير من الفرص والامتيازات، وإما أن ترضى بواقعك المعايش والتحديات المتعمدة أو غير المتعمدة التي وجدتها مطروحة في طريقك.
وهناك أعداء للنجاح الوظيفي فإن كنت على درجة من الفكر الجيد والأداء المتميز ولكن لم تحظى بالرضا والقبول من قبلهم فأنت تشكل مصدر خطر عليهم ولا بدّ من إحباطك مباشرةً مهما كان..! وعموماً هكذا هو معترك الحياة وفي شتى مناحيه المختلفة…وإن كان لكل قاعدة استثناء بمعنى أن هناك من يُشجع ويُحفز من هم دونه في السلم الوظيفي؛ تمهيداً لتجهيزهم لاستلام مناصبهم المتوقعة بعد رحيل الصف الأول.
وفي نهاية المطاف ومع اقتراب الفراق الوظيفي الحتمي تعود بك الذاكرة إلى أول الوقت القديم من حيث الضعف في الطفولة والالتحاق بالمدرسة، ومن ثمّ الالتحاق بالجامعة، وتتوقف كثيراً عند تسلم أول وظيفة رسمية وتسترجع من خلالها التفاصيل الدقيقة، والصور العديدة وكأنها بالأمس القريب بل وكأن مختصر مفهوم الحياة ماهو إلا دخول من جهة وخروج من جهة أخرى، وليس معك بعد المغادرة التقاعدية إلا حمل الذكريات الجميلة والمواقف العابرة والأحداث المؤلمة وكتابتها في أوراق قد تكون شاهدة على بعض البشر في وقت مضى، وفي كل الأحوال تحمد الله وتشكره على ما كل كتبه في حياتك.






