المقالات

الإعلام بين صون الفضيلة وردع الرذيلة

لم يكن صدور الضوابط الأخيرة عن هيئة تنظيم الإعلام حدثًا عابرًا، بل خطوة استراتيجية لإعادة ضبط البوصلة الأخلاقية في زمن تعاظم فيه أثر المنصات الرقمية. فقد تفشّت أنماط من التفاخر بالممتلكات، وكشف الخصوصيات، واستغلال الأطفال والعمالة المنزلية، وإظهار الخلافات الأسرية، وهي ممارسات لا تنتهك الذوق العام فحسب، بل تهدد تماسك الأسرة والمجتمع.

وقد حذّر القرآن الكريم من هذه السلوكيات حين قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾
ليكشف خطورة التباهي والتعالي. كما جاء في التنبيه الإلهي: ﴿وَلَا تَنابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾ تحريمًا للتنمر والسخرية والإساءة اللفظية. بل جعل القرآن الكلمة أمانة تُسجَّل على قائلها: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾

وجاءت السنة النبوية مؤكدة لهذه المعاني؛ فقال النبي ﷺ: “كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع”
وهو تحذير من نشر الشائعات والمعلومات المضللة. وقال ﷺ: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده” ليجعل ضبط اللسان والكتابة والإعلام مقياسًا لحقيقة الإيمان. كما قال ﷺ: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت”
وهو أصل في المسؤولية الإعلامية.

وفي شأن حماية الأسرة والخصوصية، قال ﷺ: “إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة أن يفضي الرجل إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها”
وهو نص صريح يجرّم نشر أسرار البيوت. أما الحياء، الذي هو جوهر المظهر والسلوك، فقد قال فيه ﷺ: “الحياء لا يأتي إلا بخير”
وأكد أنه “شعبة من الإيمان”.

تتلاقى هذه الضوابط مع تجارب دولية تجعل الحرية مقيدة بحماية القيم؛
ففرنسا تجرّم خطاب الكراهية، وألمانيا تمنع إنكار الجرائم التاريخية،
والولايات المتحدة تحظر استغلال الأطفال،
بينما تمنح اليابان وكوريا الجنوبية الأولوية للحياء العام.

وعلى صعيد صناعة المحتوى، فإن هذه الضوابط ستعيد الاعتبار إلى اقتصاد المعنى بدل اقتصاد الإثارة، وستدفع صناع المحتوى إلى تبني خطاب مسؤول يجمع بين الإبداع والالتزام.

إن الرسالة واضحة: الإعلام أمانة كبرى، وقد قال النبي ﷺ: “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته”
فالكلمة ليست أداة للتسلية العارضة، بل وسيلة لبناء القيم وحماية المجتمع. وهكذا يصبح الإعلام حارسًا للفضيلة، وبوصلةً للوعي، وجسرًا بين ميراث الأمة ومستقبلها

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى