في زمنٍ تتلاطم فيه أمواجُ الفكرِ ، وتضطربُ بوصلاتُ الوعي ، تلوحُ في الأفقِ ظاهرةٌ خطيرة تهدِّد سلامة المجتمعات واستقرارها، إنها الانحرافات الفكرية التي تُوقِع بعض شبابنا في شراك التضليل ، وتُسلمهم فرائسَ سائغة لأصحاب الأجندات المتطرفة.
وليس الأمر يقع فجأةً بلا أسباب ، بل هو انزلاقٌ متدرج، وانحدارٌ فكري يسير بخطىً خفية ، تبدأ من لحظة الانبهار والإعجاب حين يُفتنُ المغررُ به بخطابٍ متقنٍ ،أو شخصيةٍ كاريزمية تحملُ ظاهرَ الحق ، وتخفي باطله ، ثم ينتقل إلى مرحلة التقليد والتبعية ، حيث تُعطل أدوات التفكير، ويُسلم العقلُ قياده لغيره طوعًا ورضًا.
ومن هنا يتجذر التعصب ، ويتحوّل الخلاف إلى صراع، وتُغلق نوافذ الحوار ، وما التعصب إلا سلمٌ يرتقي به الفكر نحو التطرف ، ذلك السرطان الذي يلتهم الفطرة ، ويبدل الفهم ، حتى يصل بصاحبه إلى الإرهاب حيث تُسفك الدماء ، وتنتهك الأعراض ، وتُسلب الحقوق ، ويدب الرعب والخوف في النفوس .
إن هذه المراحل لا تأتي عبثًا، بل تُصنع بفعل أدوات ووسائل تُغرس في العقول، وتُلبس الباطل ثوب الحق، وتُهيئ النفس لتقبل الفكر المنحرف رويدًا رويدًا حتى يُصبح القناعة الراسخة ،والسلوك المعتاد.
ومن هنا كانت المسؤوليةُ جسيمةً على كاهلِ كل مؤسسة بدءًا من الأسرة، ثم المدرسة، ثم الإعلام، فالمسجد، وانتهاءً بكافة مؤسسات الدولة.
إن التقصير في التربية، وغياب الحوار، وضعف التحصين الفكري هو التربة الخصبة التي تنمو فيها بذور الغلو والانحراف.
ولذا بات من الضرورة بمكانٍ إنشاء وحداتٍ متخصصة في التوعية الفكرية داخل كل مؤسسة حكومية، لا كحبرٍ على ورق، أو وظيفةٍ شكلية، بل كمنبرٍ فعّالٍ يرصد، ويحلل، ويعالج، ويردّ، ويتفاعل مع فكر الشباب بلغتهم وأساليبهم ووسائلهم.
إن المعالجة الفكرية لا تصلح أن تكون علاجًا بعد استفحال الداء فحسب، بل وقايةً قبل وقوع البلاء، ورعايةً مستمرة تتبع كل مرحلة من مراحل الانحراف، فتخاطب الانبهار بالبصيرة، وترد التقليد بالتفكير، وتكسر التعصب بالحوار، وتُفكك التطرف بالفهم الصحيح، وتُحاصر الإرهاب بالعلم والإيمان.
إنّ الفكر لا يُعالج بالقمع، بل يُعالج بالعلم والوعي والنقاش الهادئ، فعلى المربين والمعنيين أن يفتحوا النوافذ، ويشعلوا المصابيح ، ويكونوا في وجه الظلام شموسًا لا تغيب.
0




