تمتدّ حكايات الشرقيّة في القلب مثل نسمةٍ تهبّ من صباحات الطائف الباردة، وتدخل الأزقّة الترابية التي كنا نركض فيها قبل أن نعرف للعالم أبوابًا أخرى. هناك، كانت الطفولة تركض معنا، وتسبقنا أحيانًا، تفتح لنا مساحات اللعب، وترسم بضحكاتنا ملامح حيٍّ لا يشيخ. نلعب “الغمّيضة” و”البرجون” و”الليري” و”المدريهة”، ونحطّ الحجارة خطوطًا للملاعب كأننا نرسم خرائط لدوري عالمي. ومع “دوري الركبان” كنا نحسّ أننا أبطال آسيا، نكتب الجداول، ونوزّع الفرق، ونعلّق على المباريات بصوتٍ يملأ الزقاق فرحًا وحياة.
والشرقيّة ما كانت تعرف بيتًا بلا دراجة؛ هوائية أو نارية. نتعلّم عليها أول معنى للحرية، نسابق الهواء، وننساب بين الشوارع بثقة أطفال يعرفون أن الحيّ كله صديقٌ لهم. كانت الدراجة جزءًا من شخصيتنا، مفتاحًا صغيرًا لباب العالم الذي كنا نحلم به.
وفي الصيف، كان الحيّ يزدهر مثل موسم ورد جديد. نروح للناديين الصغيرين، نلعب بيلياردو وتنس طاولة، ونقلب “الفرفيرة” إلى بطولة خاصة بيننا. وعلى الأرصفة نشتري البليلة، والشيرشو، والذرة، ونسمع طقطقة الفحم، وترتفع ضحكاتنا كأنها موسيقى يومية يرددها المكان. ومع عصرية كل يوم، تفوح رائحة البنّ المحمّص من بيوت الجيران، وتبدأ الحريم زيارتهن… عباءات سوداء، دلّ قهوة تهلّ رائحتها، وحديث خفيف لكنه مليان مودة وألفة.
وكان الباعة المتجولون روحًا أخرى للحيّ؛ أصواتهم تنادي على اليغمش، والمنتو، والسحلب، والمعمول، والبسبوسة. وتطلّ “فراقنا” بحمولتها من الأقمشة ومستلزمات النساء، تستقبلها البيوت بابتسامات عفوية لا تُشترى.
ويجي الليل… ليل الشرقيّة غير كل ليل. ترتفع الأغاني الشعبية من النوافذ: “يا زين اللي على الطرف” و”يا عين هلي”، وتتحول البيوت نفسها إلى مقام طربي صغير. وفي البساتين المجاورة، تشتعل الليالي بسهرات الفنّ، ويمرّ من حينا كبار الطرب: طلال مداح، محمد عبده، عبادي الجوهر، طارق عبدالحكيم، عبد الله محمد، مسفر القثامي…عبدالله المرشدي يتركون في ذاكرة الشرقيّة أثرًا يشبه ضوء القمر إذا لامس جبال الهدا.
وتبقى الشرقيّة… حيًّا ما يفارق الروح، مهما طال الزمن ومهما بعدت الطرق؛ حيٌّ يظلّ صوته ورائحته وضحكاته جزءًا منّا إلى آخر العمر


