لا شك أن العلاقات السعودية الأميركية لا يمكن أن نفصلها عن ديناميكيات الصراع، والتحالفات الدولية، والقوة والتنافس الإقليمي والدولي، خصوصا مع تطور مفهوم الجيوبوليتيك من التركيز على العوامل الجغرافية التقليدية التي اعتمدت عليها النظريات الجيوبوليتيكية لفهم وتفسير ديناميكيات الصراع والتحالفات الدولية، والتي تساعد في فهم الأسباب الجغرافية الكامنة وراء السياسات الدولية، وبشكل خاص مواقع الدول الاستراتيجية، وسيطرتها على الممرات الدولية، وأهمية الموارد الطبيعية، إلى دمج عوامل أخرى مثل التكنولوجيا، مما يعكس طبيعة العلاقات الدولية المتغيرة، من أجل فهم القوة والصراع والنظام العالمي، ولكن من زوايا متعددة.
حذرت لجنة المراجعة الاقتصادية والأمنية الأميركية من أن الرئيس الصيني شي جين بينج يسعى إلى إرساء نظام عالمي بديل يتمحور حول بلاده، وتدعمه دول وصفتها بانها معادية للديمقراطية، وأوضحت اللجنة المستقلة التي تتبع الكونغرس الأمريكي، أن شبكة التحالف هذه على الرغم من صرامتها، تزيد تعقيدات واشنطن وباقي العواصم الغربية، وان خطة الصين طويلة الأمد تتجاوز القطاعات والصناعات والحدود، ومنذ غزو روسيا أوكرانيا عام 2022 عمقت الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية تعاونها بسرعة.
تعتمد حاجة الولايات المتحدة البعيدة في أقصى الغرب عن أسواق آسيا وأوروبا وإفريقيا، فيما الصين قريبة من تلك المنطقة مما يعطيها ميزة تنافسية متفوقة على الولايات المتحدة، خصوصا ولديها مشروع طويل الأمد الحزام والطريق الذي يمكن أن يهيمن على المنطقة مقابل تحجيم النفوذ الأمريكي، وفي سياق المنافسة مع الصين ترى واشنطن في السعودية شريكا أمنيا وتجاريا أساسيا، رغم ان الرياض تحاول تحقيق توازن في علاقاتها مع القوتين مدفوعة بتحقيق مصالحها الحيوية الخاصة.
ما يضع واشنطن امام تحديات في استعادة النفوذ الكامل الذي فقدته في الفترة الماضية بسبب أخطاء الإدارات الأمريكية السابقة، خصوصا إدارة أوباما التي غضت الطرف عن النفوذ الإيراني مقابل التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، فيما أدرك الرئيس ترمب في فترة رئاسته الأولى الخدعة الإيرانية في الإصرار على التوصل إلى اتفاق نووي مع الغرب مقابل تحقيق مشروعها الإقليمي وتنفيذه عبر وكلاء في المنطقة، وفي عهد بايدن ساءت العلاقة بين السعودية وأمريكا، فسارعت الرياض إلى التهدئة مع طهران برعاية بكين، كان بمثابة زلزال سياسي لدى واشنطن، وشعرت أنها بذلك تكون قد فقدت نفوذها في المنطقة لصالح الصين، بسبب العلاقات المتنامية بين الرياض وبكين، بالفعل أدركت واشنطن انها لن تستعيد أمريكا نفوذها في المنطقة حتى تحصل السعودية على ضمانات أمنية ضد التهديدات الإقليمية.
عدم رهن السعودية مصالحها بقطب أحادي، لكن جعلها تحت الاستقطاب الدولي بين الولايات المتحدة والصين، فالصين تود الانفتاح على السعودية كقوة إقليمية فاعلة لتعزيز مكانتها في المنطقة، والولايات المتحدة عادت لمراجعة نهجها من مصالح متأرجحة إلى علاقة استراتيجية راسخة، لأنها لا ترغب ان تملأ الصين الفراغ الذي تركته، وفي ظل أهمية الطرفين للسعودية اتجهت نحو الحفاظ على علاقة مع هاتين القوتين دون التضحية بإحداهما على حساب الأخرى، وتود كسب ثقتهما في ظل الاستقطاب الراهن، ومعروف عن السعودية منذ عهد الملك عبد العزيز تتقن مهارة اللعب على التوازنات الدولية، والاستفادة القصوى من التنافس وهامش الحركة نحو تحقيق سعودية جديدة فاعلة إقليميا ودوليا.
الواقع الجديد بعد زيارة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان للبيت الأبيض السعودية لم تعد تنتظر أحدا، بل العالم بدأ يلاحقها، وما كشفته واشنطن بوست ان زيارة الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن في 19 نوفمبر 2025 كانت لحظة مفصلية، فالسعودية عادت بطائرات اف 35 وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وصفة حليف رئيسي من خارج الناتو، بينما ثبت ولي العهد موقفه الراسخ لا انضمام لاتفاقيات أبراهام دون مسار حقيقي لدولة فلسطينية.
أصبحت السعودية لاعب مستقل بشروطه ورؤيته، تعرف كيف تفاوض، ومتى ترفض، ومتى ترفع سقف شروطها، وهذا ما حدث في واشنطن، وما حدث في واشنطن ليس صفقة بل تحول استراتيجي كامل في علاقة واشنطن بالرياض، للمرة الأولى منذ عقود، لأن واشنطن بحاجة إلى السعودية التي أصبحت لاعبا دوليا لا يمكن تجاوزه، يمتلك شروطه ورؤيته وحقق إنجازات هائلة أصبحت أوراق قوته.
• أستاذ الجغرافيا السياسية والاقتصادية بجامعة ام القرى سابقا






