المقالات

من السياسة الكويتية إلى صحيفة مكة الإلكترونية: خيط السخرية الذي يجمع الزهراني بالسعدني

تعد المقالات الصحفية الساخرة من أكثر ألوان الكتابة تأثيرًا في الرأي العام، وهي فن صحفي يجمع بين الأدب والصحافة والفلسفة. وهي اليوم من أقوى أدوات النقد اللطيف المؤثر في القراء. وتعالج المقالات الساخرة قضايا اجتماعية أو سياسية أو ثقافية بأسلوب يجمع بين السخرية اللاذعة والطرافة والمفارقة والمبالغة المحسوبة والتهكم البنّاء، والنقد المغلف بالضحك، بهدف تعرية الواقع وإيقاظ الوعي العام.

وتمتاز المقالات الصحفية الساخرة بلغة خفيفة وماكرة بألفاظ بسيطة قريبة من الناس، لكنها تحمل معنى عميقًا يُظهر الفرق بين “ما يجب أن يكون” و**“ما هو واقع”** ليبرز الخلل بشكل كوميدي. وتقوم السخرية الفكرية على التركيز على السلوك لا على الأشخاص، دون التندر بهم. كما تعتمد على الإيقاع السريع، والمقالات القصيرة ذات الإيقاع المتدفق، وتظهر فيها البصمة الشخصية للكاتب الذي يبدو كأنه “راوٍ حكّاء”.

وتتجلى أدوات السخرية في المقال الصحفي عبر: التورية، والمبالغة، والمحاكاة الساخرة، والسرد القصصي الخفيف، والنكتة المنطقية، والتلاعب بالكلمات، والمقارنة الساخرة. وتنبع أهميتها من كونها من أقوى أدوات النقد الاجتماعي، إذ تكسر هيبة المشكلة بأسلوب طريف يجعل القارئ يفكّر وهو يضحك. فالضحك يجعل الأفكار أسهل وأسرع انتشارًا من المقال التقليدي، وتعمل المقالات الساخرة على تخفيف التوتر العام وتقلل من حدة الاحتقان عبر كشف التناقضات.

كما أن انتشار المقالات الساخرة اليوم يعكس تغير ذائقة الجمهور نحو محتوى سريع وخفيف، يواكب تنامي مساحة الوعي الشعبي وقدرته على قراءة الواقع نقديًا، ويُحوّل الصحافة إلى محتوى تفاعلي يتيح للكاتب استخدام النكتة كمؤشر ثقافي، مما يزيد من متعة القراءة، ويعكس ذكاء الكاتب وقدرته على التلميح لا التصريح، ويعيد للصحافة دورها الحقيقي في توعية الناس بطريقة محببة.

ومن أشهر روّاد المقال الساخر عربيًا:
محمود السعدني (من أشهر كتاب السخرية في القرن العشرين بأسلوب حكائي شعبي لاذع)، وأحمد رجب صاحب «نص كلمة»، وجلال عامر بسخريته الفكرية العميقة، وأنيس منصور وغيرهم.

وفي المملكة يظهر الكاتب الصحفي السعودي عبدالله الزهراني، رئيس تحرير صحيفة مكة الإلكترونية، الذي تمتاز مقالاته بالكتابة الجادة، والاجتماعية المسلّية، والوطنية، والمتنوعة، فضلًا عن كتابته الساخرة.

وقد قرأت عددًا من مقالاته الساخرة، فذكرتني بالصحفي المصري الراحل محمود السعدني الذي اشتهر بمقالاته الساخرة في صحيفة «السياسة» الكويتية في الثمانينات. ورغم اختلاف البيئة والزمن والسياق، إلا أن هناك ملامح مشتركة تجمعهما في جوهر الكتابة الصحفية.

فكلاهما يعتمد الأسلوب الحكائي السلس، ويكتب بلغة قريبة من القارئ، تعتمد على السرد الخفيف والحكاية الصحفية وإدخال القارئ إلى النص من خلال قصة أو موقف إنساني. وبالنظر إلى خبرة السعدني وكبر سنّه، كان هذا الأسلوب سمة أصيلة لديه، ويظهر كذلك في مقالات الزهراني التي تميل إلى روح الحكاية والتصوير الهادئ.

ويستخدم الكاتبان لغة سهلة لكنها تحمل فكرة ناقدة دون تعقيد أو زخرفة لغوية. كما يتشابهان في معالجة القضايا ذات البعد الاجتماعي؛ فكان السعدني يلتقط الظواهر الاجتماعية ويعيد تقديمها بقالب ساخر، فيما يتناول الزهراني المجتمع المحلي والعادات والتحولات الاجتماعية بلغة قريبة من الناس.

ويميلان معًا إلى النزعة الإصلاحية الهادئة؛ فكلاهما يكتب لنقد الظواهر لا الأشخاص، ولقويم المواقف، ولفت الانتباه، وتهذيب السلوك العام، ولذلك فإن النقد لديهما “مهذّب” لا جارح.

ويشتركان في حضور الشخصية الصحفية داخل النص؛ فالسعدني كان يكتب بروحه وشخصيته، وهذا يظهر أيضًا عند الزهراني في مقالاته التي تعكس تجربته ورؤيته وفهمه للأحداث.

كما تراهن كتاباتهما على ذكاء القارئ وقدرته على فهم التلميح دون الحاجة إلى التصريح. ويتشابهان أيضًا في الأثر الصحفي والإعلامي؛ إذ صنع السعدني «مدرسة» في السخرية الصحفية، فيما يصنع الزهراني اليوم خطًا أصيلًا في صحيفة مكة الإلكترونية بهدوء وعمق وقرب من الشارع المكي، مما منحه بصمة مميزة في الصحافة السعودية.

ويؤثر كل منهما في جمهوره؛ فالسعدني أثّر في القارئ العربي عمومًا، بينما أثّر الزهراني في القارئ السعودي والمكي خصوصًا من خلال مقالات تحليلية وتعليق على قضايا محلية وحضور اجتماعي وإعلامي واضح. كما يتشابهان في “روح الكتابة”، عبر الاعتماد على الطابع الإنساني؛ فالسعدني كان إنسانيًا في سخريته ينتصر للناس، والزهراني يكتب بروح اجتماعية قريبة من القارئ السعودي، تعكس اهتمامًا بالإنسان قبل الحدث.

ويسهمان معًا في تحويل المواضيع الصعبة إلى نصوص سهلة وماتعة.

ومستقبل الصحافة الساخرة في المملكة سيشهد توسعًا متسقًا مع ارتفاع سقف الحرية الصحفية والإعلامية، ومع الحاجة إلى نقد الظواهر السلبية بما يواكب رؤية المملكة 2030 التي تسعى إلى جودة الحياة للمواطنين، وبما ينسجم مع مكانة المملكة كقوة عربية مؤثرة إقليميًا ودوليًا.

• عضو هيئة تدريس سابق بقسم الإعلام – جامعة أم القرى
• مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية.

د. فيصل أحمد الشميري

عضو هيئة التدريس بقسم الإعلام بجامعة أم القرى سابقًا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى