اكتسبت القمة الخليجية (46) التي انعقدت في قصر الصخير في المنامة في الثالث من ديسمبر الجاري أهميتها بسبب انعقادها في ظروف إقليمية بالغة الحساسية، تتقاطع فيها الملفات السياسية والاقتصادية والأمنية بشكل غير مسبوق، بدءًا من ضغوط التحول الاقتصادي العالمي، وليس نهاية بالزلزال الذي تسبب في زعزعة النظام الدولي في ظل استمرار سياسة ازدواجية المعايير التي تتبعها الأمم المتحدة وغياب العدالة في تطبيق القانون الدولي، إلى جانب تعدد بؤر التوتر إقليميًا في غزة والسودان ولبنان وسوريا وإيران والأزمة اليمنية، ودوليًا في ظل استمرار الحرب الأوكرانية – الروسية، دون أن تظهر أي مؤشرات إيجابية على قرب انتهاء تلك الحرب ، وفي ظل توترات جديدة ظهرت في عدة مناطق في أمريكا اللاتينية، إلى جانب التحديات الداخلية التي تواجه دول المجلس الست، وهي تحديات تتراوح بين الحاجة إلى مزيد من التعاون بين دول المجلس للوصول إلى التكامل الذي يحقق الرؤية الخليجية في مفهوم الوحدة الخليجية المنشودة، وبين الحاجة إلى مزيد من التنسيق في كافة الملفات التي تمس مصلحة دول مجلس التعاون وفي مقدمتها التنسيق الأمني وانتهاج سياسة موحدة في مواقف المجلس في كل ما يتعلق بأمن المنطقة. واكتسبت القمة أهمية أخرى بسبب ما وصفه المراقبون بـ”لحظة مفصلية”، حيث تتحول دول الخليج من الاستجابة للأزمات إلى إعادة تشكيل “التوازنات الأمنية” في المنطقة. أما الجديد في القمة فهو الاستقبال الحافل الذي أعد لسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رئيس وفد المملكة العربية السعودية المشارك في القمة، تعبيرًا عن عمق العلاقة الأخوية التي تربط البلدين والشعبين الصديقين، وأيضًا حضور ومشاركة رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني كضيفة شرف، واستعدادها لاستقبال قمة تجمع دول حوض المتوسط بدول مجلس التعاون الخليجي لتعزيز التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري بين الجانبين .
اختتام الأمين العام للمجلس جاسم البديوي مداخلات الجلسة الافتتاحية بالتأكيد على وحدة الموقف الخليجي إزاء الهجمات التي استهدفت قطر، وإزاء التطورات في غزة، وتأكيده على أن دول المجلس ثبّتت دعمها لحل الدولتين، ورحّبت بالمبادرات الدولية الهادفة إلى وقف الحرب، مع استمرارها في تقديم المساعدات الإنسانية للشعب الفلسطيني، هذا الموقف وتلك التصريحات شكلت المؤشر الأول على نجاح القمة، ثم جاء البيان الختامي للقمة ليؤكد على هذا النجاح. فقد جاء البيان محمّلاً برسائل عديدة تعكس توجهًا خليجيًا أكثر صراحة نحو تعزيز الأمن المشترك، والعمل على إطفاء نار الحروب في العالم العربي عبر دعم المسارات السياسية، ورفض التدخلات الخارجية.
وأكدت القمة دعمها الكامل للجهود المبذولة لإنهاء الحرب في غزة، وإيصال المساعدات الإنسانية، وتسهيل إعادة الإعمار، واحترام القانون الإنساني الدولي. ويعكس هذا الموقف الموحد مشاعر الرأي العام في الخليج، ومسؤولية المنطقة الراسخة تجاه القضية الفلسطينية.
كما تضمن البيان تعزيز التعاون الأمني، الذي لطالما كان حجر الزاوية في وحدة مجلس التعاون الخليجي، بقوة خلال القمة. وأكد القادة أن أمن أي دولة خليجية هو أمن الجميع، مؤكدين رفضهم للتدخل الخارجي، أو استخدام القوة، أو أي محاولة لزعزعة استقرار الدول الأعضاء.
كما أبرز البيان الختامي ضرورة تحديث أنظمة الدفاع المشتركة، وتعزيز تبادل المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الحماية السيبرانية، وتأمين الطرق البحرية الحيوية التي تُشكل شريان حياة للطاقة والتجارة العالمية. كما جددت دول مجلس التعاون الخليجي موقفها الثابت ضد التطرف والإرهاب وخطاب الكراهية والأنشطة الإجرامية العابرة للحدود.
وعلاوة على ذلك، أكدت القمة على أهمية الحفاظ على منطقة الشرق الأوسط خالية من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل، مما يعكس التزام دول الخليج بتوفير بيئة إقليمية أكثر أمانًا وقابلية للتنبؤ.
وإلى جانب هذا المسار السياسي، برزت خطوات تكاملية لافتة داخل البيت الخليجي من خلال إنشاء هيئة طيران مدني خليجية، واعتماد منصة صناعية موحدة، ما يشير إلى رغبة الدول الأعضاء في مأسسة التعاون الاقتصادي، والارتقاء به إلى مستوى أشمل. ف
يمكننا القول في المحصلة: رسّخت قمة المنامة حقيقةً جوهرية، وحدة الخليج ليست مجرد مثالٍ شكلي، بل ضرورة استراتيجية، وأن التجربة الخليجية تعتبر أحد أنجح التحالفات الإقليمية في العالم استنادأ إلى الروابط التاريخية العميقة والهوية المشتركة والمصير المشترك التي تربط دول الخليج. ولاشك أن توجيه المجلس الأعلى بمواصلة الجهود للانتقال من مرحلة التعاون بين دول الخليج إلى مرحلة الاتحاد هو الحلم الذي يراود كافة أبناء الدول الست والذي يتطلعون إلى تحقيقه بفارغ الصبر.
0






