المقالات

جحا والدلّة التي لم تغلِ

وقف جحا أمام دلّة القهوة الموضوعة على الجمر.

الهيل حاضر، والجمر مشتعل، لكن القهوة لم تغلِ بعد.
هزّ رأسه وقال بصوت يعرف أن الحكمة لا تحتاج رفع صوت:
«القهوة لا تتأخر عبثًا…
إما نارٌ خجولة،
أو يدٌ تخشى رفعها،
أو انتظارٌ يطلب النتيجة من غير أن يغيّر السبب».

منذ عام 2003
والدلّة على الجمر.
تغيّر المكان،
وتبدّلت الوجوه،
وتغيّر الخطاب،
لكن النار هي ذاتها.
ولو كانت القهوة تغلي بالأماني،
لشربنا منها منذ زمن.

اقترب منه شاب سعودي،
ملامحه تحمل تعب الطريق، وصوته يحمل يقين الانتماء.
قال إنه باع سيارته، ودفع ثمن التذاكر والسفر والإقامة،
وجاء من أقصى البلاد
لأول مرة في حياته
يرى منتخب وطنه
يرفع كأسًا أمامه.

تأمّله جحا طويلًا،
ثم قال بهدوء لا يخلو من وجع:
«أنت فعلت ما عليك كمواطن ومشجع،
دفعت من مالك،
ومن وقتك،
ومن تعبك.
لكن من يقفون فوق الجمر
لم يحسموا بعد حق الوطن عليهم».

سأله الشاب:
«أيعني هذا أن العيب في اللاعبين؟»

أجاب جحا مشيرًا إلى الدلّة:
«اللاعب جزء من الصورة،
لكنه ليس الصورة كلها.
اللاعب ابن بيئته،
وابن موسمه،
وابن ما يُطلب منه طوال العام…
أساسيًا كان،
أم احتياطيًا ينتظر دوره».

نلعب ونسيطر،
لكن السيطرة بلا أثر.
كرة في الوسط،
تمريرات بلا شراسة،
وهجوم بلا أنياب.
نترك الغطاء مفتوحًا،
ثم نستغرب دخول الهدف.
والهدف لا يأتي مصادفة،
يأتي حين يتعب البدن،
ويغيب التركيز،
ويحسب اللاعب أن نصف خطوة لن تُرى.

قال جحا وهو يحدّق في الجمر:
«الكرة ليست ركضًا فقط.
الكرة عقل قبل القدم،
وتخطيط قبل الحماس،
وانضباط قبل كل شيء.

الكرة فيزياء صامتة؛
زاوية تُحسب،
وتوقيت يُضبط،
وسرعة تُقاس.
التمريرة ليست إحساسًا،
هي مسافة محسوبة.
والتسديدة ليست اندفاعًا،
هي قرار في جزء من الثانية.

لكن كل هذا ينهار
إذا غاب الانضباط.
الانضباط في النوم،
وفي الأكل،
وفي التمرين،
وفي احترام الخطة».

وأضاف:
«الذي يفهم اللعب
يعرف متى يضغط ومتى يتراجع،
متى يختصر المسافة
ومتى يفتح الملعب.
يعرف أن الحركة بلا كرة
أهم من لمسها،
وأن الوقوف في المكان الخطأ
يكلفك هدفًا،
حتى لو كنت أقوى بدنيًا.

الكرة نظام،
والنظام لا يعيش بلا التزام.
ومن لا يتدرّب على التفكير
ولا يلتزم بالتفاصيل
قبل التنفيذ
يضيع حين تتسارع اللحظة».

ثم تنفّس جحا بعمق وقال:
«كرة القدم ليست تسعين دقيقة.
هي موسم كامل من الاحتكاك،
والجاهزية،
والتحمّل.
من يقضي العام على الدكة
لا يمكن أن يُطلب منه فجأة
أن يحمل ثقل وطن،
ويحسم لحظة،
ويصنع بطولة».

وأضاف:
«الأكاديميات ليست مباني ولا شعارات.
هي مطابخ.
تدخلها الموهبة خامًا،
وتخرج لاعبًا يعرف الالتزام قبل الشهرة،
ويفهم اللعبة بعقله قبل عضلاته،
ويعرف معنى القميص قبل عقده».

وأشار إلى صدره وقال:
«هذا الشعار
ليس قطعة قماش.
هو اسم وطن،
وتاريخ رجال
تعبوا ليبقى عاليًا.
من يحمله
يحمل معه واجبًا،
وسلوكًا،
ومسؤولية».

وأضاف بنبرة لا تقبل التأويل:
«الوطن لا يطلب الكمال،
لكنه يطلب الصدق.
أن تحترمه حين تلبس اسمه،
وأن تعرف أنك تمثل شعبًا،
لا لحظة تصفيق».

سكت قليلًا، ثم قال:
«جيل الثمانينيات اليوم
صار يُصنّف من كبار السن.
وهم آخر من رأى المنتخب
يحمل بطولة بيده؛
كأس الخليج عام 2003.

أما البطولات الكبرى،
فآخرها كان أبعد من ذلك.
وجيل كامل بعدهم،
من التسعينيات والألفية،
كبروا على الإعادات،
وعلى “قريبًا”،
وعلى تاريخ لم يعيشوه في المدرجات».

رفع جحا صوته قليلًا:
«وهذه الكرة ليست غريبة علينا.
هي امتداد لماجد عبدالله،
ولمحمد عبدالجواد،
ولأحمد جميل،
ولسعيد العويران،
ولمحمد الدعيع،
وليوسف الثنيان،
ولمحمد نور
الذي جمع الفن بالقيادة والأمانة.
رجال عرفوا أن الشعار أمانة،
وأن الفرح لا يُصنع صدفة».

وأشار إلى الدلّة وقال:
«الدلّة ليست قهوة فقط.
هي حكاية بيت كامل.
إذا اختلّ ترتيب البيت،
لا تنفع أجود الحبوب».

ورؤية 2030
لم تُبنَ على التمني،
بل على ترتيب الداخل
قبل تلميع الخارج.
وفي الوقت الذي تُبنى فيه الملاعب العالمية
استعدادًا لكأس آسيا 2027
وكأس العالم 2034،
تبقى الدلّة تنتظر
أن تغلي بكأس
يعيشه الشعب
لا يشاهده في الأرشيف.

ابتسم جحا وقال:
«الغريب أن 2003 و2030
الأرقام ذاتها،
لكن بترتيب مختلف.
وربما لم تكن المشكلة يومًا في الزمن،
بل في الترتيب».

سار جحا بجانب الشاب،
ثم توقف فجأة وقال:
«أتعرف لماذا استطعت الكلام معك؟
لأنك جئت باسم بلدك،
وبوجهك،
وبهويتك.
الوطن لا يريد نسخًا،
يريد من يشبهه».

ومضى.
وفي اللحظة التي ابتعد فيها عن الجمر،
بدأت الدلّة تغلي.

وقال دون أن يلتفت:
«لم تكن المشكلة في القهوة،
ولا في الفنجان،
ولا في الوقت…
بل في نارٍ خجولة،
وبيتٍ لم يُرتّب بعد».

وهذه
حكاية جحا…
وحكاية الدلّة التي لم تغلِ.

حسن الصغير

مدير التحرير - منطقة الباحة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى