لغتنا العربية بحر ممتد من الألفاظ التي نبحر في آدابها وفنونها، سطرت لنا أعذب القصائد، وحكت لنا أجمل القصص التي حملتنا معها إلى عوالم تجاوزت أفق الحياة، وسحرتنا بجمال خطوطها الآسرة التي تنساب بعذوبة على الورق، كما حفظت لنا تاريخًا وحضارات لا زلنا نفخر بأيامها.
واحتفاءً بهذا الإرث الإنساني، جُعل ١٨ من ديسمبر يومًا للتعريف بتاريخ اللغة العربية، وثقافتها، ومراحلها، وإنجازاتها؛ بدعم من مؤسسة الأمير سلطان بن عبدالعزيز الخيرية، التي تبنّت انضمام اللغة العربية لليونسكو لتكون لغة عالمية منذ ٢٠١٦؛ إذ هي إحدى اللغات الإنسانية الرسمية، التي يتكلمها ما يزيد على ٤٠٠ مليون نسمة يوميًا، متجاوزين حدود المنطقة العربية، فلا أحد يجهل أهميتها للمسلمين في تأدية العبادات، وفهم القرآن الكريم.
ومع هذا الانتشار الواسع للغة العربية فإنها تواجه تحديًا كبيرًا في ظل هيمنة اللغات العالمية الأخرى، واكتساحها المشهد اللغوي التواصلي العالمي، ليس لتميزها أو انفرادها، بل لسرعة انطلاقها وحضورها مع كل جديد في مجالات الحياة، والعلوم، والتقنية، وتصدرها في التواصل مع العالم الرقمي حتى أصبحت لغته السائدة، مما أنتج عبئًا ثقافيًا خلق تصورًا أن اللغات الأجنبية أكثر تطورًا مما جعل استخدامها مقدمًا على اللغة الأم.
هذه التحديات التي تواجه اللغة العربية، جعلت يومها العالمي يتزين كل عام بموضوع مختلف ذا ارتباط عميق باللغة وإنجازاتها، وتوجيه اهتمام أهل اللغة إلى التحديات التي تواجه لغتهم في محاولة لتبني المشهد، وإيجاد حلول للتغلب عليها، وتجاوزها، ويركز موضوع هذا العام على قيمة الابتكار في رسم مستقبل اللغة، وتحديدًا دور التعليم والتكنولوجيا والإعلام في حضور اللغة العربية، وتعزيز حضورها لدى المجتمعات لتكون منصة للحوار الثقافي لما تحمله من تنوع لغوي.
فالابتكار هو أساس بناء المستقبل فحينما يواجه الإنسان المشكلات ويعرف حدودها وتفاصيلها سيستطيع أن يُشكل أفكاره مبتكرًا حلولًا مناسبة لتجاوزها، وفي عالم متسارع ينبض بروح التقنية، فإن اللغة التي لا تبتكر تضعف، وتُكسر قوتها مهما كان عمقهًا التاريخي وإرثها الثقافي.
ومن هنا يأتي دور الابتكار في إيجاد طرق عملية متوافقة مع المجتمع لتوظيف اللغة العربية واستدامتها، بالتفاعل مع التقنية وجعلها بيئة حاضنة للغة، بابتكار تطبيقات ذكية، ومنصات تعليمية تفاعلية، واستحداث أدوات تعالج اللغة، وتُثري من استخدامها، والتعامل معها. ويكون ذلك بتبني المؤسسات التعليمية والثقافية إقامة المسابقات والبرامج، ودعم المبتكرين وتمويلهم في مجال خدمة العربية؛ للمساهمة في استدامة اللغة ونمائها، وهو ما تقدمه العديد من المؤسسات التعليمية والثقافية في إقامة المسابقات والتحديات الابتكارية.
ولا شك أن بناء علاقة وجدانية بين الثقافة والمتلقي العربي تُسهم بشكل كبير في تعزيز مكانة اللغة، فكلما كانت الثقافة مبحرة مع التطور والتسارع الزمني متشكلة في صور إبداعية معاصرة، كانت أكثر اقترابًا من قلب المجتمع، وبالتالي يزداد الانتماء والاندامج مع اللغة، وهو قدمته هيئة الأدب والنشر والترجمة في برامجها الثقافية ومنها برنامج الشريك الأدبي الذي دعم المثقفين لنشر الوعي الثقافي، ودمج الثقافة بالمجتمع، وهذا تأصيل لقيمة اللغة وتأكيد على أهميتها.
ولا يقف الإعلام بمنأى عن هذا المشهد التكاملي، فالإعلام شريك فاعل في استدامه اللغة، ورسم حاضرها ومستقبلها، فللغة الحيّة التي يتداولها في خطاب الإعلامي العام، وما يقدمه من الألفاظ النمطية اليومية ترسخ في ذهن المشاهد والمستمع، وتؤثر على الذائقة العامة، فتُمكنه هذه السطوة اللغوية من إدخال مصطلحات جديدة وتداولها، مما يؤكد تأثيرها على المجتمع، ومعززًا للعلاقة الوجدانية بين اللغة والمجتمع.
إن اعتزاز الدول العربية بلغتهم، واعتمادها لغة أساسية للبلاد، ولغة الخطاب الرسمية في الندوات والمؤتمرات، هو اعتزاز بالهوية وانتماء للعروبة، وتحقيق لاستدامة اللغة.
0






