المقالات

رسالة إلى تيم فانس: حين يتنكر الإعلام في ثياب الحياد

في إحدى أيام الخريف الباردة من العام ٢٠١٩، وداخل واحدة من قاعات محاضرات الدراسات العليا في الولايات المتحدة، دار بيني وبين أستاذي الأميركي نقاشٌ حول تغطية إعلامية لقضية عربية شغلت الرأي العام العالمي – حينها -. كان الدكتور تيم في الخمسينات من عمره. لا يُسرع في إطلاق أحكامه، لكنه لا يخلو من خفة ظل تظهر فجأة في نكتة ذكية، يُطلقها في لحظة انغماس في الموضوع الذي يناقشنا حوله، فتتبعها ضحكات خفيفة من الطلاب.

كان يرى “تيم” في أداء إحدى القنوات الإخبارية المؤدلجة نموذجًا للموضوعية والحيادية الإعلامية، بينما كنت أتبنى فكرة أن الحياد الإعلامي لا يُقاس بنبرة الصوت، بل من خلال أخلاقيات المهنة.

تلك القناة، التي تردد دومًا “الرأي والرأي الآخر”، لم تكن خارج الصراع، بل في صلبه. كانت مدعومة من طرفٍ رئيسي في أزمة إقليمية محتدمة، تنقل الخبر وتعيد تشكيله، تختار من يُسمع صوته ومن يُقصى، من يُدان ومن يُبرّأ. لم تكن مرآةً تعكس الواقع، بل عدسةً تصنعه، وتحدّد زاوية النظر إليه.

اليوم، وبعد سنوات، تكشف تسريبات لونا الشبل ـ المهندسة الإعلامية للنظام السوري المخلوع ـ تباين الوسيلة الإعلامية في التغطية الإعلامية ، وكيف تمارس التضليل وفق أجندة عدائية من جهة، وتجميل وجه السلطة التي تتبعها من جهة أخرى. لم تكن مجرد كلمات، بل ضحكات على الركام، تكشف عن ازدراءٍ دفين للضحايا، واستهانةٍ بعمق الجراح التي لم تندمل.

عزيزي تيم: ما بين تغطية الأمس وتسريبات اليوم، لم يكن الإنسان كقيمة هو الهدف الرئيس لها. تداعيات مقتل هذه الإعلامية كلها أحداث تقودنا إلى فهم واحد: أن نفس هذه المؤسسة الإعلامية التي كانت تدّعي الحيادية في طرحها، لم تكن حبًا في خدمة القضايا التي ركزت عليها، بل ابتزازًا وفق أجندة معينة، بعيدًا عن الحيادية والمهنية والموضوعية التي كنت تتشدق بها.

أخيرًا عزيزي تيم: الإعلام حين يتقن التنكر ويرفع شعارات الحياد، وهو في الحقيقة يمارس الانحياز بغباء، حين يتحوّل من سلطة رقابية إلى أداة ابتزاز، ومن ناقل للحدث إلى صانعٍ له.

لا بد أن نعيد النظر في مفاهيمنا الأكاديمية. أن نعلّم طلاب الإعلام – خاصة – أن يسألوا دومًا: من يموّل؟ من يربح؟ من يختار ما يُقال وما يُخفى؟

فالحياد، في كثير من الأحيان، ليس غياب الانحياز… بل إتقانه!

رائد جابر الزهراني

مُحاضر بقسم الإعلام في جامعة الملك فيصل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى