لم تكن الهايد بارك بالنسبة لي مجرد حديقة، بل كانت دائمًا ملاذي في هذه المدينة التي أسكنها. فأنا لندنيٌّ بالمعيشة، لا زائر يمرُّ مرور العابرين. هذه المساحة الخضراء الشاسعة ليست استراحة، بل ضرورة؛ هي هروبي من ضوضاء المدينة إلى سكونها العميق.
في ظهيرة رمادية – كما اعتادت لندن أن تكون – دخلتُ من بوابة “ماربل آرتش”، وإذا ببحيرة “سربنتاين” تستقبلني كعادتها: ساكنة، لامعة، تنبض بالحياة من دون صوت. على سطحها انساب البطّ بخفة، كأنما يرسم على الماء خطوطًا من الطمأنينة. حول البحيرة مشيتُ كما أفعل كثيرًا، لا لهدف، بل لأن المسير هناك نوع من التأمل، يتيح لك أن تتنفس ببطء، وتفكر بصمت، دون أن يزعجك أحد.
الهايد بارك تمتدّ على أكثر من 350 فدانًا، لكنها لا تُقاس بمساحتها، بل بتأثيرها. هنا، المساحة الخضراء ليست زينة للمدينة، بل قلبها الحقيقي. هنا تشعر أن لندن تعرف كيف تمنحك لحظة هدوء وسط حياتها السريعة، وكأنها تقول: لا بأس أن تتوقّف قليلاً.
في طريقي، مررتُ بالمقاعد الخضراء التي تذكّرني دومًا أن الهدوء ليس غياب الحياة، بل أحد أشكالها الأكثر رقيًّا. جلستُ قرب شجرة بلوط قديمة، بجوار رجل مسنّ يطعم الحمام بهدوء. لم يلتفت إليّ، لكنه قال فجأة:
“أجمل ما في هذه المدينة أنها تمنحك الحق في أن تكون صامتًا من غير أن يُساء فهمك.”
ابتسمت. كنت أعلم تمامًا ما يقصده، فأنا أعيش ذلك كل يوم.
في كل جزء من الهايد بارك، تجد ما يناسبك: من يركض، من يقرأ، من يستلقي تحت شمس خفيفة، أو من يكتفي بالمراقبة. مقاهيها المنتشرة تمنحك استراحةً حقيقية، ليست للشراب فقط، بل للروح. كوب قهوة، مقعد خشبي، ومشهد طبيعي كأنما رُتّب لك وحدك.
أكثر ما يدهشني هو كيف أنّ الحديقة تحتضن الجميع. فيها مسارات للركض، أماكن للأطفال، مساحات مخصصة للدراجات، مناطق هادئة للمسنين، ومقاعد للعزلة أو للتأمل. حتى الحيوانات – من السناجب إلى البط – تعيش فيها كجزء طبيعي من المشهد، بلا خوف أو انزعاج.
أما “ركن الخطباء”، فصوت الكلمات يعلو فيه، لكنه لا يزعج. بل يُعلّمك كيف يصغي الناس إلى المختلف، كيف يقفون بسلام، وكيف تسمح لك المدينة بأن تقول كل شيء.. أو لا تقول شيئًا.
حين خرجت من الحديقة بعد ساعتين، شعرت كما أشعر في كل مرة: أن الحياة تهدأ هنا. أن قلبي أعاد ترتيب نفسه على إيقاع أبطأ، أصدق، وأقرب إلى ما أحب.
الهايد بارك بالنسبة لي ليست حديقة. إنها جزء من معيشتي اليومية، من ذاتي.
هي المكان الذي أستعيد فيه نفسي كلما أثقلني صخب المدينة.
• من لندن…






