في الزاوية الشمالية من مدينة المعرفة، وعلى مقربة من محطات القطارات الكبرى، تقف المكتبة البريطانية شامخة كأنها تحرس ذاكرة الإنسانية. هنا، لا تصرخ الكتب، لكنها تهمس. لا تصطخب الأفكار، لكنها تتنفس. هنا، لا يدخل الزائر فقط ليتصفح، بل ليتأمل، ويقرأ نفسه قبل أن يقرأ العالم.
دخلت المكتبة البريطانية ذات صباح رمادي من صباحات لندن، وقد تسللت إلى قلبي رهبة المكان قبل أن تطأ قدماي سجاد الردهة الفسيحة. لم تكن المكتبة مكانًا للكتب فحسب، بل كانت متحفًا للمعرفة، ومحرابًا للقرّاء، يتعانق فيه العقل والروح.
في قاعاتها المهيبة، وقفت أمام نسخة نادرة من القرآن الأزرق، مكتوبًا بالحبر الذهبي على رقٍّ أزرق داكن، وهي من أندر المصاحف التي وصلتنا من الأندلس أو شمال إفريقيا. ثم انتقلت ببصري إلى مخطوطات ابن سينا والرازي، فإذا بتاريخنا العلمي يتنفس بين الزجاج، يشهد أن أمتنا كتبت، ودوّنت، وعلّمت العالم.
في ركنٍ آخر، كانت هناك مسودات لشكسبير، ورسائل بخط يد غاندي، وملاحظات بخط كارل ماركس. التاريخ هنا لا يُروى من فوق المنابر، بل يُقرأ من بين السطور، وتصبح المخطوطات بمثابة “شهود عيان” على رحلة العقل البشري في البحث عن المعنى.
ما يدهشك في المكتبة البريطانية ليس الكمّ فحسب، بل الاحترام الهائل لفعل القراءة. ترى القارئ يجلس ساعات طوالًا في صمت تام، والباحث يغوص بين فهارس الكتب كما يغوص الغواص في بحر المرجان. هنا، لا مكان للضجيج، ولا وقت للتسرع، فالكتاب سيد اللحظة.
ولأن المكتبة ليست فقط للعارفين، فقد خُصّصت مساحات للزوار العابرين، ولمعارض دورية تُعرض فيها كنوز من التراث الإسلامي، والأدب الشرقي، والمخطوطات العربية. وكلما سألني أحد: كيف تُقدم صورة الإسلام في الغرب؟ أجيبه: في أمثال هذه المكتبات والمعارض، قبل أن تكون في الخطب والمنابر.
وفي كل مرة أغادر فيها هذا المكان، أعود محمّلًا بأسئلة أكثر من الأجوبة، فالمعرفة لا تُشبع، بل توقظ الجوع الكامن فينا للبحث، للفهم، ولإعادة قراءة ذواتنا وأمتنا وتاريخنا من جديد.
المكتبة البريطانية ليست مجرد مبنى، بل هي عنوان حضاري، ورسالة مفتوحة من الماضي إلى الحاضر.
وفي لندن، كل طريق للمعرفة لا بد أن يمر بها، ولو مرّة واحدة.






