«سلسلة “يوميات لندن”»
حين تتمشى في شوارع لندن، المدينة التي تتنفس التاريخ كما تتنفس الضباب، قد تظن للوهلة الأولى أن أسماء الطرق والساحات لا تحكي إلا الرواية البريطانية وحدها. ولكن ما إن تتأمل الخرائط بعين الباحث، وتتوقف عند اللافتات بعين المحب، حتى تدرك أن ثمة حضورًا عربيًا وأفريقيًا هادئًا، يتخلل هذه المدينة، ليس فقط في الوجوه واللهجات، بل في أسماء الأمكنة ذاتها، وفي تفاصيل العمران، وخيوط الذاكرة.
من “سلطنة عُمان” إلى سفارات الخليج: أثرٌ لا يضيع
في قلب ويستمنستر، تقف سفارة سلطنة عُمان شامخة في شارع Queen’s Gate بمنطقة ساوث كنسنغتون، تحفّها أعلام وتحيط بها تمثيليات دبلوماسية عربية من قطر ومصر والإمارات والسعودية. ورغم أن المنطقة لا تُعرف رسميًا بـ”المنطقة العُمانية”، فإن كثافة الحضور الدبلوماسي العربي فيها جعلت المارة يطلقون تسميات مجازية تعبّر عن هوية الشوارع وطبائع من يرتادونها.
شارع “عُمان” في ولسدن غرين: هوية في اسم
في شمال غرب لندن، وتحديدًا في حي Willesden Green، يمتد شارع يحمل اسمًا كبيرًا في جغرافيتنا: Oman Road.
ليس شارعًا واسعًا ولا فيه من المعالم ما يلفت نظر السائح، لكنه يحمل دلالة رمزية عميقة؛ ففي كل مرة يُذكر فيها اسم هذا الشارع، يستدعي في الذاكرة حكايات عن روابط تاريخية ودبلوماسية، عن جاليات هجرت الصحراء واستقرت على ضفاف نهر التايمز، وعن ذاكرة لا تغيب حتى وإن تغيرت الوجوه.
شارع أسمرة في كريكل وود: ذاكرة تنبض بالعلم والجمال
أما في منطقة Cricklewood، فينبض القلب كلما مررتُ بشارع يحمل اسم Asmara Road – المدينة التي ولدتُ فيها، وعاصمة بلدي إريتريا.
“روما الصغيرة” كما كان يسميها الإيطاليون، بأقواسها وحدائقها وأناقتها المعمارية، تجد لها صدى في هذا الشارع اللندني الصغير، حيث تستحضر الذاكرة طفولة مشرقة، وشوارع ناطقة بالعربية والتجرينية، وبحكايات الجدّات والمآذن.
وفي أسمرة، لا يقتصر الجمال على العمارة الإيطالية والشرفات ذات الأقواس المستديرة، بل يمتد إلى روح العلم والدين. هناك، يقع مسجد الخلفاء الراشدين في شارع السلام، مسجدٌ شامخ بمآذنه البيضاء، يقف بجواره المعهد الديني الإسلامي، الذي تأسّس على النمط الأزهري، وكان وما زال صرحًا علميًا فريدًا من نوعه في شرق أفريقيا.
أساتذته جميعًا من خريجي الأزهر الشريف، يدرّسون المنهج الأزهري من الفقه إلى النحو، ويُلقب رئيسه بـ”شيخ المعهد” – كما في تقاليد الأزهر العريقة.
أسمرة، بهذه اللوحة، لم تغادرني. بل تسير معي كلما مررتُ بـAsmara Road في لندن، كأن المدينة نسخت شيئًا من روحها، وتركته في هذا الحي الصغير.
أسماء تكرّم رموز النهضة: فيصل وعبدالله والكويت
غير بعيد عن ريجنت بارك، وتحديدًا قرب المسجد المركزي بلندن، تنتشر مبانٍ ومؤسسات حملت أسماء عربية لافتة مثل King Faisal Foundation وKing Abdullah Academy.
هذه الأسماء لا تعبّر فقط عن الجغرافيا، بل تجسّد امتدادًا لجهود عربية في دعم التعليم والدعوة والثقافة الإسلامية في أوروبا، في فترة شهدت فيها الجاليات المسلمة نموًا كبيرًا وتحديات متصاعدة.
أما في نوتنغ هيل، فإن وجود حديقة صغيرة تُعرف باسم Kuwait Gardens يشكّل تذكارًا حيًا للعلاقات الكويتية-البريطانية، لا سيما في أعقاب حرب الخليج، حيث كان للوجود الكويتي أثر اجتماعي وثقافي واضح في غرب لندن.
“Mecca House” وEdgware Road: حين تتكلم الجدران بالعربية
في شرق لندن، وتحديدًا في منطقة Stepney، يقع مبنى يحمل اسم Mecca House، وهو مركز إسلامي متعدد الأنشطة، يخدم جاليات متنوعة من أصول يمنية وصومالية وبنغالية.
وإن لم يكن شارعًا باسمه، فإن رمزيته تعلو على الخرائط، بما يحتضنه من تعليم ديني ونشاط اجتماعي يعكس تفاعل الهوية الإسلامية مع الحياة اللندنية.
أما Edgware Road، فلا حاجة فيه إلى لافتات عربية؛ فالمكان نفسه يتكلم الضاد، من أسماء المطاعم والمقاهي (الأنس، الأندلس، عروس دمشق…) إلى أحاديث المارة الذين يجعلون من هذا الشارع “حيًا عربيًا” بكل ما تعنيه الكلمة من نبض وحياة.
حين تتكلم الأسماء
ليست أسماء الشوارع مجرد أدوات تنظيمية، بل هي مرآة لذاكرة الشعوب وهويتهم، وكتابة صامتة على جدران المدينة.
وفي لندن، هذه المدينة العالمية بامتياز، تكتسب الأسماء طابعًا رمزيًا يُعيد تشكيل العلاقة بين الشرق والغرب، بين المهاجر والمنفى، بين الأصل والتجربة.
إن مرور أبناء الجاليات العربية والأفريقية بهذه الشوارع يوميًا، حتى وإن لم ينتبهوا لمعانيها، هو في حد ذاته مشاركة وجدانية في سردية أكبر، تُكتَب كل يوم بالحضور والغياب، بالتسمية والنطق، بالحنين والانتماء.
لندن لا تهمس فقط بأسماء ملوكها، بل تروي أيضًا، لمن يُنصت، أسماءً قادمة من أزقة الشام، وسواحل القرن الأفريقي، وسهول الجزيرة العربية… لتُعلن أن الحضور العربي والأفريقي، مهما خفُت، لا يغيب.






