هناك في ذاكرة الحضارة، أسماءٌ لا تقف على الرفوف، بل تمشي بين السطور، تضيء العقول كأنها مصابيح لا تنطفئ.
ومن بين تلك الأسماء، يسطع اسمٌ كلما أُعيد قراءته بدا وكأن صاحبه يعيش في الزمن الحاضر:
إنه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري… الرجل الذي حوّل عمره إلى ورق، وحوّل الورق إلى حياةٍ تمشي على أرجل القرون.
لم يكن الطبري عالمًا عاش في الكتب؛ بل كان كتابًا عاش بين الناس.
كان مثل شجرةٍ وُلدت لتثمر، لا لتستظل، ولدت لتمنح، لا لتطلب.
ولدت لتبقى… وهذه أعظم هبة.
طفولة من نور… كأن فجرًا مبكرًا نزل في بيتٍ متواضع
وُلد الطبري في آمل بطبرستان، في بيتٍ صغير، لكن سقفه كان واسعًا كسماء؛ يتنزل فيه الذكاء كالوحي، وتهب عليه الرياح التي تصنع الملاحم.
في السابعة حفظ القرآن…
في الثامنة أمَّ الناس…
في التاسعة كتب الحديث…
كأن السنوات كانت تجري وراءه لتلحق بخطاه، وهو يركض نحو نورٍ يرى ولا نراه.
كان طفلاً بحجم رسول رسالة، يُدرك أن العمر لا يُقاس بما نعيشه، بل بما نضيئه.
بغداد… المدينة التي تفتح أبوابها لمن يعرف قيمتها
حين وصل بغداد، بدت له المدينة كعاصمة الكون:
حلقاتٌ للفقهاء، سرايا للعلماء، كتبٌ تتزاحم، أفكارٌ تتدافع، نُسَخٌ تُكتب تحت قناديل المساجد، وعقولٌ تتلامع كالنجوم.
هناك، جلس الطبري مثل نهرٍ وجد مجراه.
قرأ على كبار أهل اللغة، واختلط بجهابذة الحديث، وتتلمذ على شيوخ الشافعي، وحفظ ما لا يحفظ غيره.
ولم يلبث طويلًا حتى صار هو الشيخ… والناس من حوله كالسحاب.
الهمّة… ذلك الجبل الذي يسكن قلب رجل واحد
الطبري لم يكن من أصحاب الهموم الصغيرة ولا الأحلام القصيرة.
كان جبلاً من همّة، إذا أراد أمرًا لم يمنعه شيء، وإذا كتب جملةً حملت وزنًا لا يحتمله إلا قلمٌ يعرف قدر الكلمة.
روى تلاميذه أنه قال يومًا:
«هل تنشطون لكتابة تاريخ العالم؟»
قالوا: «في كم؟»
فأجاب كمن يكشف سرًّا: «في أربعين ألف ورقة.»
فصاحوا: «هذا مما تفنى فيه الأعمار!»
فابتسم ابتسامةً تخصّ العظماء وقال:
«ذهبت الهمم.»
يا لها من جملةٍ تشبه سيفًا يُشق به العمر ليصنع عمرًا آخر.
تفسيرٌ كالبحر… وتاريخٌ كالأفق
ما الذي جعل اسم الطبري خالدًا؟
ليس كثرة كتبه، بل أن كل كتابٍ كتبه كان كتابًا للعالم كله.
تفسيره: البحر الأول
كتابه جامع البيان ليس تفسيرًا، بل كونٌ لغوي وروحي.
جمع فيه أصوات الصحابة والتابعين، وفتح للناس أبواب اللغة، وقادهم في ممرات الشعر العربي، وأضاء لهم الظلال الغامضة في النص القرآني.
كان يرى القرآن كحديقةٍ تتفتح له وحده، فيقطف منها المعاني كما يقطف العطر من الزهور.
تاريخه: الأفق الذي لا ينتهي
أما تاريخ الأمم والملوك فهو سيرة العالم، من بدء الخليقة إلى زمانه.
قرأ الطبري التاريخ كما تُقرأ القصيدة:
سلسلة من البشر يتحركون في الظلال، تتغير وجوههم، لكن تظل الحقيقة واحدة.
رجل عاش للوحدة… ولكن لم يعش وحيدًا
عجيبٌ أمر هذا الرجل؛
لم يتزوج…
لم ينشغل بمال…
لم يطارد منصبًا…
لم يطلب شهرة…
كان يقول:
«شغلتُ نفسي بالعلم.»
كان وحده، لكنه لم يكن وحيدًا؛
كان معه القرآن…
وكان معه التاريخ…
وكان معه صبرٌ يقتات عليه، وزهدٌ يفتح له أبوابًا لا تراها العيون المادية.
المعاناة… تلك النار التي تصهر الذهب
اقترب الناس من الطبري، فرأى منهم الودّ، كما رأى منهم الغيرة والحسد والتعصب.
منعوه من التدريس، حاصروا داره، شغبوا عليه.
لكن العظماء لا يكسرهم التشويش، ولا يطويهم الضجيج.
كان يقول:
«سأُحاسَب على ما أكتب، لا على ما يقولون.»
فلما مات، صلى عليه قليلٌ من أصحابه؛ لكن العالم ظلّ يصلّي عليه آلاف المرات، كلما قرأ تفسيره، أو فتح صفحةً من تاريخه.
في عيون المستشرقين… وقفة احترامٍ غير معلنة
قد يختلف المرء مع مناهج المستشرقين، ولكن لا أحد يستطيع أن ينكر أنهم حين وقفوا عند كتب الطبري، خلعوا أحكامهم المسبقة.
• رأى نولدكه أنه «أعظم مؤرخٍ في الإسلام».
• واعتبره روزنثال «عقلًا تاريخيًا بارعًا سابقًا لعصره».
• وقال غولدزيهر إنه “أمّ التفسير الإسلامي.”
كانت هذه الشهادات مثل نوافذ جديدة، تُعيد للعقل الإسلامي ثقته بنفسه.
أثرٌ لا يشيخ… وإرثٌ يتجدد
لم يكن الطبري عالمًا عابرًا، بل كان حجر زاوية في العقل الإسلامي.
لا يمكن دراسة التفسير دون أن يُذكر اسمه.
ولا يمكن كتابة التاريخ دون أن يبدأ منه.
ولا يمكن البحث في مناهج النقد إلا ووجدت ظله.
بقي حيًا، لأن كتبه ليست أوراقًا، بل أوعية زمن؛
من يفتحها يعيش معه، ويسير في شوارع بغداد، ويجلس في مجالس العلم، ويشعر أن الطبري يتنفس معه.
ابن جرير… القصيدة التي كتبها الزمن ولم يستطع محوها
إنّ أجمل ما في سيرة هذا الإمام أنّه لم ينتظر المجد، بل ذهب إليه.
لم ينتظر أن يُعرف، بل ترك للناس كلامه ليعرّفوه.
لم يترك أبناءً، لكنه ترك أمةً كاملة من القرّاء والباحثين.
ابن جرير الطبري ليس مجرد عالم،
إنه قصيدةُ علمٍ طويلة،
كتبها الزمن بمداد رجلٍ واحد،
وظلّ يرددها العالم منذ أكثر من ألف عام.
ولعل أجمل ما نقوله عنه اليوم:
إنه عاش للعلم…
فأحياه العلم…
وأحيا به الله أمّةً كاملة





