المقالات

المؤذّن الذي لم يغب.. الشيخ رأفت… حين يكون الأذان عبادةَ عمر لا خبرًا عابرًا

في زمنٍ اعتاد أن يرفع منسوب العظمة بقدر ما يعلو الضجيج، تمرّ أحيانًا شخصيات كبرى في صمتٍ مهيب، لا تطلب الالتفات، ولا تتقن الوقوف أمام الكاميرات، لكنها تُراكم في ميزان السماء ما تعجز الأضواء عن احتوائه.

من هذه الشخصيات: الشيخ رأفت، مؤذّن المسجد المركزي في لندن، الرجل الذي لم يكن الأذان عنده وظيفة، ولا دورًا مؤقتًا، بل عهد حياة.

لأكثر من خمسةٍ وثلاثين عامًا، ظلّ هذا الرجل يقف في الموضع نفسه، يرفع الأذان في قلب مدينةٍ عالمية لا تهدأ، متطوعًا لا يتقاضى أجرًا، ملتزمًا لا يعرف الغياب، حاضرًا قبل الوقت، وكأن بينه وبين الأذان ميثاقًا لا يُنقَض.
لم يكن كثير الظهور، لكن صوته كان جزءًا من ذاكرة المكان، ومن الطمأنينة التي ألفها المصلّون جيلاً بعد جيل.

الأذان… حين يتحول إلى هوية

الأذان في لندن ليس مجرّد إعلان وقت صلاة؛ إنه شهادة وجود، ورسالة سلام، وتذكير يومي بأن لهذا المكان ربًّا، وللإنسان وجهةً أعلى من زحام الحياة.
وقد فهم الشيخ رأفت هذا المعنى بعمق؛ فلم يتعامل مع الأذان كأداء صوتي، بل كأمانة تُؤدّى بالقلب قبل الحنجرة.

لم يعرف التخلّف عن صلاة، ولم يسمح للظروف أن تفاوضه على حضوره. كانت حياته منسوجة على إيقاع الأذان، لا العكس.

حين سبق الأذان الحزن

ومن المواقف التي تختصر سيرة هذا الرجل، ذلك اليوم الذي توفي فيه والده في مستشفى سانت ميري.
كان الألم حاضرًا، لكن الأذان لم يُؤجَّل. ذهب، أدّى الأذان، ثم عاد ليكون إلى جوار أبيه.
لم يكن ذلك قسوةً في القلب، بل وضوحًا في البوصلة: عبودية لا تُعطَّل، ووفاء لا يتناقض.

حادثة الطعن… والسموّ فوق اللحظة

حين تعرّض الشيخ رأفت لحادث الطعن داخل المسجد، اهتزّ المكان، واهتمّت المدينة.
زارَه عمدة لندن، وحضر سياسيون، وسفراء، واصطفت وسائل الإعلام البريطانية لتوثّق المشهد، وتبحث عن صورة ورواية وتصريح.

لكن اللافت – بل المدهش – أن الشيخ رأفت لم يكن معنيًا بكل ذلك.
لم يسعَ إلى لقاء أحد، ولم يبدِ اهتمامًا بالأضواء، ولم يسمح للحادث أن يعيد تعريفه أو أن يختصره في لحظة اعتداء.
كأنه يقول بصمته:

ما أنا عليه أكبر من الحدث، وما أقوم به أعمق من الخبر.

الطعنة لم تصنع قيمته، ولم تغيّر مساره، بل كشفت معدنًا ظلّ ثابتًا لعقود: الارتفاع فوق الجراح، لا الوقوف عندها.

شهادة قُرب لا سيرة رسمية

وأنا أكتب عن الشيخ رأفت، لا أكتب من مسافة، بل من معرفة قريبة.
عرفته إنسانًا هادئًا، متواضعًا، دقيقًا في التزامه، لا يتحدّث كثيرًا عن نفسه، ولا يرى في ما يفعل بطولة.
هو من أولئك الذين يخدمون الدين حين لا يراهم أحد، ويؤدّون رسالتهم لأنهم يؤمنون بها، لا لأنهم ينتظرون تقديرًا أو تصفيقًا.

خاتمة: العظمة التي لا تصنعها المنصات

سيرة الشيخ رأفت ليست قصة حادث، بل قصة ثبات.
درسٌ في معنى الرباط اليومي، وفي الفرق بين من يخدم الدين حين تُسلَّط عليه الأضواء، ومن يخدمه لأنه يرى الله حاضرًا في كل أذان.

في زمنٍ يعلو فيه الضجيج، يبقى صوت الأذان الذي يرفعه المخلصون في صمت، أعلى من كل الأصوات…
ويبقى الشيخ رأفت شاهدًا حيًّا على أن العظمة الحقيقية لا تحتاج إلى شهود، يكفيها الصدق.

 

أ.د. فايد محمد سعيد

عضو المجلس الأوروبي للقيادات المسلمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى