»سلسلة: الممالك الإسلامية في أفريقيا – الإنسان، المعرفة، والتاريخ المنسي»
تمهيد: السلسلة والمنهج
في هذه السلسلة الأكاديمية “الممالك الإسلامية في أفريقيا: الإنسان، المعرفة، والتاريخ المنسي”، نُعيد اكتشاف صفحات مهملة من تاريخنا الإسلامي في القارة السمراء، حيث نشأت ممالك إسلامية ذات سيادة، وأنتجت معرفة، وأسست هوية دينية وثقافية ما تزال آثارها باقية.
نسعى إلى إبراز الأدوار الحضارية لهذه الممالك، في التأريخ والدعوة والتجارة واللغة، والرد على التصورات النمطية التي تحصر الإسلام الإفريقي في التبعية أو الهامش. وفي هذا السياق، نسلط الضوء على سلطنة كيلوا، التي ازدهرت على سواحل شرق إفريقيا، وكانت مناراتها قبلة للتجار والعلماء والرحالة المسلمين لعدة قرون.
أولًا: النشأة والتأسيس
تأسست سلطنة كيلوا في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، على يد علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، والمعروف في بعض المصادر باسم علي بن سليمان، الذي جاء من جنوب الجزيرة العربية إلى الساحل الشرقي لإفريقيا واستقر بجزيرة كيلوا (Kilwa Kisiwani) الواقعة اليوم في تنزانيا.
كان معه ومن بعده مهاجرون عرب من حضرموت وعُمان واليمن، اندمجوا مع المجتمعات المحلية، وشكّلوا مجتمعًا سواحليًا مسلمًا نشطًا في التجارة والدعوة، مما أدى إلى نشوء سلطنة إسلامية مستقلة لعبت دورًا محوريًا في تاريخ المنطقة.
ثانيًا: ملوك السلطنة وأبرز حكامها
عرفت السلطنة تعاقبًا لعشرات الملوك، منهم من امتد نفوذه خارج الجزيرة، وخلّد التاريخ أسماءهم:
• علي بن الحسين: المؤسس الذي أسس الاستقرار السياسي والديني في كيلوا.
• السلطان الحسن بن سليمان (ق 14م): أبرز حكام كيلوا، بنى المسجد الكبير وقصر الحسوني الشهير.
• سليمان بن الحسن: وسّع رقعة السلطنة شمالًا وجنوبًا، وأقام علاقات دبلوماسية وتجارية مع الهند واليمن وعدن.
كان نظام الحكم ملكيًا وراثيًا، يعتمد على الشورى، وتأثر في بنيته بالإسلام السني، خاصة المذهب الشافعي.
ثالثًا: الرقعة الجغرافية ونفوذ السلطنة
امتدت سلطنة كيلوا من جنوب الصومال إلى موزمبيق، وسيطرت على جزر وموانئ مهمة مثل:
• مومباسا، لامو، باتي (في كينيا(
• زنجبار وبمبا (في تنزانيا(
• سوفالا (في موزمبيق(
بلغت ذروتها في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين، وكانت تتحكم في تجارة الذهب من زيمبابوي، والعاج والقرنفل والعبيد، وتمد العالم الإسلامي بهذه المواد الاستراتيجية.
رابعًا: المنجزات الحضارية والدينية
1. النهضة العمرانية: بُني في كيلوا مسجد الجمعة الكبير في القرن الحادي عشر الميلادي، ويُعد من أقدم المساجد الحجرية في إفريقيا جنوب الصحراء. كما أُنشئت القصور الحجرية والأسواق والشبكات المائية.
2. الدعوة والتعليم: كانت المساجد مراكز علمية تُدرَّس فيها الفقه الشافعي واللغة العربية والحديث. وقد ساهم التجار والعلماء في نشر الإسلام في الداخل الإفريقي.
3. الهوية السواحلية الإسلامية: نشأت اللغة السواحلية كلغة تخاطب تجمع بين العربية والبنتوية، وتُكتب بالحرف العربي، وهي إرث كيلوا الأكبر اليوم.
4. الازدهار الاقتصادي والتجاري: شكّلت السلطنة عقدة الوصل في طرق التجارة العالمية، وكان ميناؤها يستقبل سفن الهند واليمن والصين.
خامسًا: إرث السلطنة وأثرها الباقي
• الآثار المعمارية: لا تزال أطلال مسجد كيلوا الكبير وقصر الحسوني ماثلة إلى اليوم، وقد أُدرج الموقع في قائمة اليونسكو للتراث العالمي سنة 1981م، بوصفه أحد أهم الشواهد على العمارة الإسلامية المبكرة في إفريقيا جنوب الصحراء.
• اللغة السواحلية: انتشرت اللغة السواحلية – ذات الأصل الإسلامي – لتصبح اليوم لغة رسمية في كينيا وتنزانيا وأوغندا، وتُستخدم في الخطاب الديني الإسلامي.
• التاريخ الشفوي والمروي: لا تزال قبائل الساحل تحفظ روايات عن “سلاطين العرب” و”مدن القمر”، وتُعد كيلوا مصدر فخرٍ جماعي في الذاكرة السواحلية.
سادسًا: أسباب الزوال ونهاية السلطنة
بدأت السلطنة تضعف مع تصاعد الغزوات البرتغالية في بداية القرن السادس عشر. وفي عام 1505م، قاد القائد البرتغالي فرانسيسكو دي ألميدا حملة عسكرية على كيلوا، فاحتلها، وأطاح بحكم السلطان الحسن بن سليمان.
فرض البرتغاليون ضرائب واحتكارًا تجاريًا، ما أدى إلى انهيار الاقتصاد المحلي، وتفكك السلطنة إلى دويلات صغيرة، وانسحاب مركز الثقل إلى زنجبار لاحقًا.
سابعًا: آراء المؤرخين والباحثين
أ. المؤرخون الأفارقة
• يرى علي مزروعي أن كيلوا تمثل “نموذجًا للإسلام المتجذر إفريقيًا”، دون عنف أو قسر، بل عبر التجارة واللغة والمصاهرة(^1)
• ويكتب عبد الرحمن سعيد نجيمو أن كيلوا “كانت مدينة علم وشريعة، لا مجرد مرفأ تجاري”(^2)
ب. المستشرقون
• وصفها ريتشارد بورتون بأنها “أطلال مجدٍ مفقود”، وأشاد بعمارتها الإسلامية المتقنة (^3)
• أما G.S.P. Freeman-Grenville فاعتبرها “العاصمة الروحية والتجارية للمحيط الهندي في العصور الوسطى”(^4)
ج. مراكز البحوث
• يشير الطيب محمد حسن إلى أن كيلوا “شكلت نموذجًا للشافعية الإفريقية المتصالحة مع البيئة المحلية”(^5)
• ويرى مركز الدراسات السواحلية – نيروبي أنها “أول حضارة بحرية إفريقية بمرجعية إسلامية واضحة”(^6)
• كما وصفتها اليونسكو بأنها “رمز لتفاعل الإسلام والتجارة والعمران في إفريقيا”(^7)
ثامنًا: الدروس والعبر
• الإسلام حضارة لا غزو: انتشر الإسلام في كيلوا بالتدافع الثقافي لا بالسيف، ما يُعطي درسًا للدعاة اليوم.
• التكامل التجاري والديني: وفّرت التجارة منصة لنشر القيم الإسلامية.
• الاستعمار يقوض الحضارة: سقوط كيلوا يثبت أن التدخل الخارجي يدمّر التراكم التاريخي للمجتمعات.
• أهمية تدوين التاريخ المحلي: غياب التأريخ الذاتي جعل كثيرًا من ممالكنا عرضة لتأريخ المستشرقين.
خاتمة
سلطنة كيلوا ليست مجرد ذكرى تاريخية، بل تجسيد حي لِما يمكن أن تنتجه الحضارة الإسلامية حين تتفاعل مع البيئة وتفهم الإنسان وتستثمر الجغرافيا. إنها شاهدٌ على أن الإسلام في إفريقيا ليس طارئًا، بل أصيل، ومن رحم هذه التجربة نستمد الوعي الحضاري والهوية الإسلامية الإفريقية.
—————–
الهوامش والمراجع (نمط شيكاغو)
(1): Ali Al’amin Mazrui, The Swahili Ethos and the Islamic Legacy, in African Islam and Islam in Africa, ed. Nehemia Levtzion and Randall Pouwels (Trenton, NJ: Africa World Press, 1998), 124–140.
(2) Abdulrahman Said Njimo, Kilwa as a Model of Islamic Urbanism in the Pre‑Colonial Swahili Coast (PhD diss., University of Dar es Salaam, 2004), 44.
(3) Richard F. Burton, Zanzibar: City, Island, and Coast, vol. 2 (London: Tinsley Brothers, 1872), 309.
(4) G. S. P. Freeman-Grenville, The Medieval History of the Coast of Tanganyika (Oxford: Clarendon Press, 1962), 86.
(5) الطيب محمد حسن، “البنية العلمية لسلطنة كيلوا ودورها في نشر الإسلام”، مجلة الدراسات الإسلامية الإفريقية 10 (2018): 71–93.
(6) Swahili Studies Centre, Kilwa and the Swahili Urbanism (Nairobi: University of Nairobi Press, 2011).
(7) UNESCO World Heritage Centre, “Ruins of Kilwa Kisiwani and Ruins of Songo Mnara,” accessed July 2025, https://whc.unesco.org/en/list/144
.






