المقالات

السلطنة الزنجبارية: النفوذ العماني في إفريقيا الشرقية

«سلسلة: الممالك الإسلامية في أفريقيا – الإنسان، المعرفة، والتاريخ المنسي»

المقدمة

في زوايا التاريخ الإفريقي المنسي، تختبئ ممالك إسلامية عظيمة أسست حضارات وبنت شبكات من المعرفة والتجارة والروحانية، امتدت آثارها في المكان والزمان. هذه السلسلة العلمية تسعى إلى استعادة تلك الصفحات المهملة من الذاكرة الجماعية، عبر رصد تجارب إنسانية راقية جمعت بين الدين والمعرفة والعمران، وتركز على محور ثلاثي: الإنسان، والمعرفة، والتاريخ المنسي.

ومن بين تلك الممالك التي تستحق وقفة علمية متأملة، تبرز السلطنة الزنجبارية بوصفها نموذجًا فريدًا للنفوذ الإسلامي العُماني في شرق إفريقيا. فقد شكّلت هذه السلطنة، التي تأسست في القرن التاسع عشر، تجربة سياسية وتجارية وثقافية متميزة، جمعت بين الحضور العربي والإفريقي، وأسهمت في إعادة تشكيل ملامح الساحل الشرقي للقارة.

ليست السلطنة الزنجبارية مجرد امتداد سياسي لسلطنة عمان في إفريقيا، بل هي ثمرة تفاعل حضاري طويل بين العرب والسواحل السواحلية، تجسد في إقامة دولة إسلامية ذات سيادة ونفوذ، لها دور في التجارة العالمية ونشر الثقافة الإسلامية والعربية في عمق إفريقيا.

يهدف هذا المقال إلى دراسة السلطنة الزنجبارية بوصفها أحد أبرز أشكال النفوذ العماني في إفريقيا الشرقية، من خلال تناول سياق تأسيسها، وسير المؤسسين، وأسباب ظهورها، وإنجازاتها السياسية والثقافية والاقتصادية، وأسباب زوالها، وما تبقى منها في الذاكرة الإفريقية. كما يُسلط الضوء على مواقف المؤرخين والباحثين من هذه السلطنة، وما تمثله للشباب الإفريقي اليوم بوصفها تجربة تستحق التأمل والاستلهام.

أولًا: التعريف بالسلطنة الزنجبارية: الجغرافيا والتاريخ والهوية

تقع زنجبار قبالة الساحل الشرقي لإفريقيا، وتحديدًا في المحيط الهندي، وهي أرخبيل يتكوّن من عدة جزر رئيسية أبرزها جزيرتا أنغوجا (زنجبار الكبرى) وبمبا، بالإضافة إلى جزر صغيرة متناثرة. وعلى الرغم من صغر مساحتها، فقد مثّلت زنجبار لعقود طويلة مركزًا محوريًا للتجارة والثقافة في شرق إفريقيا، ونقطة التقاء استراتيجية بين العالمين العربي والإفريقي.

من الناحية التاريخية، عرفت زنجبار تواصلًا قديمًا مع العالم العربي، يعود إلى عصور ما قبل الإسلام، لكنه تعزّز بشكل كبير بعد الفتح الإسلامي، خاصة مع قدوم التجار العمانيين واليمانيين الذين استقروا على الساحل الشرقي لإفريقيا. وقد لعب العُمانيون دورًا حاسمًا في تشكيل ملامح الجزيرة، من خلال نشر الإسلام، وبناء المساجد، وتطوير التجارة البحرية، والتداخل الاجتماعي مع السكان المحليين من السواحليين.

في بدايات القرن التاسع عشر، بدأت ملامح كيان سياسي مستقل تتشكل في زنجبار تحت قيادة الأسرة البوسعيدية الحاكمة في عمان، التي تمكنت من مدّ نفوذها البحري إلى الساحل الإفريقي. وقد وصلت ذروة هذا النفوذ حين قرر السلطان سعيد بن سلطان البوسعيدي، أحد أبرز حكام عمان، نقل عاصمته من مسقط إلى زنجبار عام 1840م، مؤسسًا بذلك ما يُعرف بـالسلطنة الزنجبارية، ككيان سياسي مستقل له سيادته، وارتباطاته الدبلوماسية الدولية، وخصوصيته الحضارية.

الهوية الزنجبارية في ظل هذه السلطنة تشكلت من مزيج حضاري فريد: فقد امتزج العنصر العُماني بالعناصر الإفريقية السواحلية والهندية، مكوِّنًا بيئة ثقافية متنوعة ومزدهرة، تحت راية الإسلام واللغة العربية. وقد كانت زنجبار في هذه المرحلة تمثل نقطة الوصل بين الشرق والجنوب: بين الخليج العربي والقرن الإفريقي، وبين شبه القارة الهندية والداخل الإفريقي.

هكذا برزت السلطنة الزنجبارية ليس فقط بوصفها امتدادًا لحكم عربي إسلامي في إفريقيا، بل كقوة بحرية وتجارية فاعلة، ساهمت في رسم خرائط النفوذ الحضاري في المحيط الهندي، وكانت فاعلًا مؤثرًا في معادلات السياسة والاقتصاد الإقليمي والدولي في القرن التاسع عشر.

ثانيًا: تأسيس السلطنة الزنجبارية والمؤسسون الأوائل

1. خلفية التأسيس: الطريق نحو زنجبار

شهدت سلطنة عُمان في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر تحولات سياسية وعسكرية كبرى، أدّت إلى توسيع نفوذها البحري بشكل غير مسبوق، خاصة على امتداد الساحل الشرقي لإفريقيا. وكان من أبرز تلك التحولات صعود السلطان سعيد بن سلطان بن أحمد البوسعيدي إلى سدة الحكم في عمان سنة 1806م، في فترة تميزت بالصراع مع القوى المحلية والعائلية من جهة، والمنافسة الأوروبية المتزايدة من جهة أخرى.

وقد أدرك السلطان سعيد بحسّه السياسي والتجاري أن الحضور العُماني التقليدي في شرق إفريقيا يمكن أن يتحول إلى قاعدة استراتيجية رئيسة، ليس فقط لتأمين المصالح التجارية، بل أيضًا لبناء نفوذ إقليمي واسع في وجه التغلغل الأوروبي، خصوصًا البرتغالي ثم البريطاني. لذلك، بدأ في تثبيت دعائم الحكم العماني في مناطق مثل ممباسا ولامو وماليندي، إلى أن أصبحت زنجبار هي المركز الأبرز.

2. التأسيس الرسمي ونقل العاصمة (1840م)

في سنة 1840م، اتخذ السلطان سعيد قرارًا محوريًا تمثّل في نقل عاصمة سلطنة عمان من مسقط إلى زنجبار، وهو قرار لم يكن شكليًا فقط، بل حمل دلالة سياسية كبرى، إذ عبّر عن انتقال ثقل السلطنة نحو شرق إفريقيا. وبذلك، تأسست السلطنة الزنجبارية ككيان سياسي جديد مستقل إداريًا عن عمان، وإن ظلّ مرتبطًا بها في البنية الأسرية والدينية والثقافية.

اختار السلطان سعيد زنجبار عاصمةً له بسبب موقعها الاستراتيجي وتوسّع تجارتها، وبنى فيها قصرًا فخمًا (بيت الساحل)، وأسس إدارات حكومية منتظمة، وعقَد اتفاقيات دولية مع قوى عظمى مثل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، حتى أصبحت زنجبار خلال سنوات قليلة إحدى أنشط الموانئ في المحيط الهندي، ومركزًا اقتصاديًا ودبلوماسيًا متقدمًا.

3. السلطان سعيد بن سلطان (1791–1856): المؤسس الأكبر

يُعد سعيد بن سلطان البوسعيدي (1791–1856م) مؤسس السلطنة الزنجبارية بلا منازع، وهو أحد أبرز شخصيات التاريخ العماني الحديث. نشأ سعيد في كنف والده السلطان أحمد بن سعيد، مؤسس الدولة البوسعيدية، وتولّى الحكم بعد اغتيال والده. تميز عهده بالحزم السياسي، والتوسع البحري، والانفتاح التجاري.

أهم ملامح شخصيته وسياسته:

• عزّز قوة الأسطول العماني وجعله من أقوى الأساطيل في المحيط الهندي.
• أقام علاقات دبلوماسية مع الدول الكبرى، ووقّع معاهدات مع الولايات المتحدة (1833م)، وبريطانيا (1839م)، وفرنسا.
• شجع الزراعة، وخصوصًا زراعة القرنفل، التي تحولت إلى رمز اقتصادي لزنجبار.
• كان يتحدث العربية والسواحلية والإنجليزية، واهتم بالتعليم الإسلامي، وبنى المساجد والمدارس، وجعل اللغة العربية لغة رسمية في الإدارة.

4. الأبناء والخلفاء: ما بعد سعيد بن سلطان

بعد وفاة السلطان سعيد في 1856م، نشب صراع بين أبنائه حول خلافته. وقد أدى هذا النزاع إلى انقسام السلطنة البوسعيدية إلى فرعين:

• فرع عمان: بقي تحت حكم ابنه ثويني بن سعيد.
• فرع زنجبار: تولاه ابنه ماجد بن سعيد، الذي أصبح أول سلطان مستقل لزنجبار، معترف به دوليًا سنة 1856م.

توالى بعد ماجد عدد من السلاطين من أبناء سعيد، من أبرزهم:

• برغش بن سعيد (1870–1888م): كان إداريًا قويًا، بنى شبكة إدارية حديثة، وشيّد مباني حكومية، وواجه النفوذ الأوروبي بشيء من الحذر.
• خليفة بن سعيد وعلي بن سعيد: حكموا في أواخر القرن التاسع عشر، لكن نفوذهم كان يضعف تدريجيًا تحت الضغط البريطاني المتزايد.

ثالثًا: دوافع تأسيس السلطنة الزنجبارية: الأسباب الجغرافية والسياسية والتجارية والدينية

لم يكن تأسيس السلطنة الزنجبارية حدثًا عفويًا أو ظرفيًا، بل كان ثمرة تفاعل معقد بين عوامل جغرافية وتجارية وسياسية ودينية، أدركها السلطان سعيد بن سلطان بذكاء استراتيجي. وفيما يلي أبرز الدوافع التي قادت إلى تأسيس هذه السلطنة في قلب شرق إفريقيا:

1. الدافع الجغرافي – الموقع الاستراتيجي لزنجبار

تقع زنجبار على خط الملاحة البحري بين شبه الجزيرة العربية، والهند، والساحل الشرقي الإفريقي، ما جعلها موقعًا مثاليًا لقيادة التجارة البحرية. وكانت الجزيرة بمثابة حلقة وصل بين العالم العربي والقرن الإفريقي وجنوب آسيا، وسهّلت تحكّم العمانيين في الحركات البحرية والتجارية في المحيط الهندي.

من هذا المنطلق، كانت زنجبار الأنسب لتحويلها إلى عاصمة بديلة لسلطنة عمان، خاصة في ظل صعوبات سياسية واقتصادية بدأت تظهر في منطقة الخليج آنذاك.

2. الدافع التجاري – السيطرة على طرق التجارة

شهد القرن التاسع عشر نموًا هائلًا في تجارة السلع الإفريقية، مثل القرنفل، والعاج، والذهب، والعبيد. وقد رأت السلطنة العمانية في زنجبار فرصة ذهبية لتكون مركزًا رئيسًا لتجميع هذه السلع وتصديرها، خاصة أن الجزيرة أصبحت تُعرف بـ”جوهرة المحيط الهندي”.

ساهم السلطان سعيد في تحويل زنجبار إلى عاصمة القرنفل في العالم، حيث جلب بذوره من جزر الهند الشرقية، وشجع زراعته بكثافة. كما أنشأ موانئ ومستودعات، وربط زنجبار بشبكات تجارية تصل إلى الهند والخليج وأوروبا، مما وفّر دخلًا اقتصاديًا ضخمًا للسلطنة.

3. الدافع السياسي – تثبيت النفوذ الإقليمي في وجه القوى الأوروبية

في ظل التوسع الاستعماري الأوروبي (خصوصًا البريطاني والفرنسي والبرتغالي)، أدرك السلطان سعيد ضرورة تعزيز النفوذ العماني في إفريقيا، ليس فقط لحماية المصالح، بل أيضًا لتحقيق نوع من التوازن الإقليمي في مواجهة الأطماع الغربية.

وقد سعى السلطان إلى إضفاء طابع الشرعية الدولية على وجوده في زنجبار من خلال توقيع معاهدات مع قوى غربية، فكان أول حاكم مسلم في إفريقيا يوقّع معاهدة تجارية مع الولايات المتحدة، متبعًا بذلك سياسة واقعية مدروسة.

4. الدافع الديني – نشر الإسلام وتعزيز الروابط الحضارية

كان السلطان سعيد بن سلطان يحمل همًّا دينيًا واضحًا، تمثل في نشر الإسلام وتعزيز الهوية الإسلامية والعربية في المناطق الإفريقية الساحلية والداخلية. ومن خلال إنشاء المساجد، والمدارس القرآنية، وتثبيت اللغة العربية، أصبحت السلطنة الزنجبارية مركز إشعاع حضاري إسلامي في شرق إفريقيا.

كما شجع السلطان على الزواج والتمازج بين العمانيين والسكان المحليين، ما أدى إلى نشوء طبقة سواحلية مسلمة ذات هوية مركّبة، كانت بمثابة نواة لنشر الإسلام في الداخل الإفريقي.

بهذا، مثّلت السلطنة الزنجبارية مشروعًا استراتيجيًا متعدد الأبعاد، جمع بين الاقتصاد والدين والسياسة، وأسّس لحضور عُماني طويل الأمد في شرق القارة الإفريقية.

رابعًا: أبرز إنجازات السلطنة الزنجبارية: في التجارة، الثقافة، التعليم، والسياسة

شهدت السلطنة الزنجبارية في عهد السلطان سعيد بن سلطان وخلفائه فترة من الازدهار الاستثنائي، جعلت من زنجبار مركزًا اقتصاديًا وثقافيًا وحضاريًا مهمًا في شرق إفريقيا والعالم الإسلامي. وتجلّت إنجازات السلطنة في عدة مجالات، يمكن تلخيص أبرزها فيما يلي:

1. الإنجاز التجاري: زنجبار مركزًا للتجارة الدولية

• أصبحت زنجبار في منتصف القرن التاسع عشر أحد أهم الموانئ التجارية في المحيط الهندي، حيث كانت تصدّر القرنفل والعاج والذهب وجوز الهند إلى الأسواق الآسيوية والأوروبية، وتستورد الأقمشة والأرز والتوابل والسلع المصنعة.
• أدخل السلطان سعيد زراعة القرنفل إلى زنجبار، ونجحت السلطنة في احتكار تصديره عالميًا، حتى أصبحت تُلقّب بـ**“جزيرة القرنفل”**.
• شكّل الأسطول العماني قوة بحرية تحمي السفن التجارية وتؤمّن طرق الملاحة من القرصنة البحرية، وامتدّ نفوذ السلطنة إلى الساحل الإفريقي من مقديشو شمالًا إلى موزمبيق جنوبًا.
• أُبرمت معاهدات تجارية مع الولايات المتحدة (1833م)، وبريطانيا، وفرنسا، مما رسّخ الاعتراف الدولي بزنجبار ككيان سيادي مؤثر.

2. الإنجاز السياسي والدبلوماسي: كيان مستقل معترف به دوليًا

• أصبحت زنجبار، بفضل سياستها الخارجية النشطة، أول دولة إفريقية تستقبل قنصليات أجنبية دائمة: الأمريكية (1837م)، البريطانية، والفرنسية، وهو أمر نادر في السياق الإفريقي آنذاك.
• اتبعت السلطنة سياسة واقعية متوازنة مع القوى الغربية، فاستفادت من التنافس بين بريطانيا وفرنسا والبرتغال، وأظهرت قدرة على المناورة السياسية لضمان الاستقلال النسبي.
• أسّس السلطان سعيد جهازًا إداريًا منظّمًا، يجمع بين النظم التقليدية العمانية والأساليب الحديثة في الحكم، مع تعيين قضاة وولاة في المدن الكبرى مثل ممباسا ولامو وبمبا.

3. الإنجاز الثقافي والمعرفي: إشعاع اللغة العربية والإسلام

• كانت اللغة العربية اللغة الرسمية للسلطنة في الإدارة والتشريع والمراسلات، كما كانت تُستخدم في المحاكم والمدارس.
• انتشرت المساجد والمدارس القرآنية في المدن الكبرى، وكان المسجد الجامع في زنجبار من أبرز المراكز الدينية في المنطقة، حيث خرّج علماء وطلبة علم من مختلف أنحاء شرق إفريقيا.
• ساهم التزاوج الثقافي بين العمانيين والسواحليين في نشوء هوية حضارية جديدة، تحتضن الإسلام واللغة العربية والثقافة الإفريقية المحلية، مما مهّد لنشوء أدب سواحيلي مكتوب بالعربية.
• حُفظت آلاف الوثائق الرسمية والمراسلات بالخط العربي، والتي ما زالت إلى اليوم تُعد من أهم مصادر دراسة التاريخ الإفريقي الإسلامي في القرن التاسع عشر.

4. الإنجاز الاجتماعي: التنظيم والاندماج المجتمعي

• أدارت السلطنة مجتمعًا متعدد الأعراق والديانات بانضباط نسبي، حيث تعايش العرب والعجم والسواحليون والهنود والأفارقة تحت سلطة القانون الشرعي.
• شجعت السلطنة الهجرة والاستقرار، وجعلت من زنجبار وجهة للتجار والعلماء والمهاجرين من الخليج والهند واليمن والداخل الإفريقي.
• أُنشئت أنظمة للجباية وتوزيع الموارد وتنظيم الأسواق، مما ساعد في استقرار الدولة وتحقيق رخاء نسبي للمواطنين.

بهذه الإنجازات، تحوّلت السلطنة الزنجبارية من مجرد امتداد خارجي للنفوذ العماني إلى دولة إفريقية ذات سيادة، متعددة الثقافات، وقادرة على التأثير في السياقات الإقليمية والدولية.

خامسًا: السلطنة الزنجبارية في الذاكرة الإفريقية: بين الامتداد الثقافي والحنين السياسي

لم تكن السلطنة الزنجبارية مجرد كيان سياسي عابر في تاريخ إفريقيا الشرقية، بل شكّلت نقطة تحوّل في الوعي الإفريقي بالذات الحضارية، وخلّفت أثرًا ثقافيًا وروحيًا عميقًا ظل حاضرًا في الذاكرة الجماعية للشعوب السواحلية والإفريقية المسلمة حتى بعد زوال السلطنة. هذه الذاكرة تتجلى في جوانب متعددة، أهمها:

1. بقاء اللغة والثقافة العربية في شرق إفريقيا

رغم مرور أكثر من قرن على زوال السلطنة الزنجبارية، لا تزال اللغة العربية حاضرة في الحياة الدينية والثقافية في مناطق واسعة من تنزانيا وكينيا وأوغندا، إلى جانب اللغة السواحلية التي احتفظت بكمٍّ هائل من المفردات العربية. ويُعد ذلك من أبرز آثار النفوذ العُماني الإسلامي الذي ترسّخ في عهد السلطنة.

كما لا تزال الكتابة بالخط العربي (الـ”أجمي”) مستخدمة في بعض المجتمعات المسلمة، لا سيما في المخطوطات الدينية والتعليمية، وهو مظهر من مظاهر البقاء الرمزي لتلك الدولة الحضارية.

2. العمارة الإسلامية والمساجد التاريخية

ما تزال معالم السلطنة قائمة في المدن الكبرى مثل زنجبار القديمة (Stone Town)، حيث تنتشر المساجد ذات الطابع العُماني، والبيوت ذات الأبواب المزخرفة بالنقوش العربية، والأسواق القديمة التي تحتفظ بجذورها الإسلامية والعمانية.

وقد أُدرجت مدينة “ستون تاون” ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو عام 2000، لما تحمله من رموز معمارية وثقافية تعبّر عن الحقبة الزنجبارية.

3. الحنين السياسي والتاريخي

في الأوساط الإفريقية، خصوصًا في أجيال ما بعد الاستقلال، يُنظر إلى السلطنة الزنجبارية كـتجربة حكم محلي إسلامي مستقل استطاع أن يوازن بين الداخل والخارج، ويؤسس دولة ذات سيادة قبل مجيء الاستعمار الأوروبي الكامل.

وقد عبّرت نخب إفريقية معاصرة عن هذا الحنين في خطابها السياسي والثقافي، باعتبار السلطنة نموذجًا يجب إعادة تقييمه في إطار التحرر من الرواية الاستعمارية للتاريخ.

4. الهوية المزدوجة والاعتزاز بالجذور العُمانية

لا يزال كثير من سكان الساحل الإفريقي، وخاصة في زنجبار ودار السلام وممباسا، يُفاخرون بأصولهم العُمانية، وتُوجد حتى اليوم عائلات تحمل أسماءً تدل على انتمائها إلى القبائل العُمانية (كالهنائي، البوسعيدي، الهلالي…).

وقد أدّت هذه الهوية المركبة إلى نوع من الانفتاح الحضاري، حيث يشعر أبناء الساحل بانتمائهم إلى كل من إفريقيا والعالم العربي في آنٍ واحد.

5. حضور السلطنة في الرواية الشعبية والأدب المحلي

استحضرت الرواية السواحلية والأساطير المحلية شخصية السلطان سعيد بن سلطان، والسلطنة الزنجبارية عمومًا، باعتبارها مرحلة مجد وقوة. وتُروى الحكايات الشعبية في بعض المناطق عن “السلطان العربي” الذي جاء بالسفن، ونشر الإسلام، وأقام الأسواق، وأدخل الحضارة.

بهذا المعنى، لم تكن السلطنة الزنجبارية مجرد صفحة من الماضي، بل جزءًا حيًا من الوعي الثقافي والجغرافي والروحي لشرق إفريقيا، وهو ما يفسر استمرار الاهتمام بها في الدراسات الإفريقية الحديثة.

سادسًا: أسباب زوال السلطنة الزنجبارية: من الانقسام الداخلي إلى السيطرة البريطانية (1896)

رغم القوة السياسية والاقتصادية التي بلغتْها السلطنة الزنجبارية في القرن التاسع عشر، فإنها لم تصمد طويلًا أمام المتغيرات الدولية والتحديات الداخلية المتراكمة. فقد انهارت السلطنة رسميًا عام 1896 بعد “أقصر حرب في التاريخ” ضد بريطانيا، ولكن الزوال الفعلي بدأ قبل ذلك بسنوات، نتيجة تفاعل عدة عوامل متشابكة، من أبرزها:

1. الانقسام السياسي بعد وفاة السلطان سعيد بن سلطان (1856)

بعد وفاة السلطان سعيد بن سلطان البوسعيدي، مؤسس السلطنة الزنجبارية، نشب صراع على العرش بين ابنيه ماجد وثويني، حيث تمسّك الأول بالحكم في زنجبار، بينما عاد الثاني إلى عمان، مما أدى إلى تقسيم الدولة البوسعيدية إلى فرعين: العُماني، والزنجبارية.

ورغم تسوية النزاع بتحكيم بريطاني فرض التقسيم، فإن هذه الازدواجية أضعفت السلطنة وقلّصت من نفوذها الخارجي.

2. التغلغل الأوروبي والتنافس الاستعماري

كان القرن التاسع عشر قرن “التكالب على إفريقيا”، حيث تسابقت القوى الأوروبية على استعمار القارة. وقد واجهت السلطنة الزنجبارية ضغوطًا متزايدة من البريطانيين والألمان والفرنسيين، الذين سعوا إلى السيطرة على طرق التجارة، خاصة تجارة القرنفل والعاج.

وبحلول عام 1890، فرضت بريطانيا على زنجبار اتفاقية الحماية (Protectorate)، والتي جرّدتها فعليًا من السيادة، وحوّلت السلطان إلى رمز شكلي.

3. معركة زنجبار (27 أغسطس 1896): النهاية الرمزية

في ذلك اليوم، حاول السلطان خليفة بن سعيد استعادة السيادة ورفض الانصياع للتعليمات البريطانية بتنصيب سلطان موالٍ لهم، ما أدّى إلى نشوب الحرب.

وقد قصفت البحرية البريطانية قصر السلطان، واستمرت الحرب حوالي 38 إلى 45 دقيقة، لتُسجل كأقصر حرب في التاريخ، وتنتهي بسقوط السلطنة فعليًا وتحولها إلى مستعمرة بريطانية.

4. الضغوط الاقتصادية ونهاية تجارة الرقيق

مع تنامي الضغط الأوروبي لإلغاء تجارة الرقيق، التي كانت أحد أعمدة الاقتصاد الزنجباري، أُجبرت السلطنة على توقيع معاهدات متتالية حدّت من تجارتها ومداخيلها، مما أدى إلى انهيار الاقتصاد الزراعي القائم على العبيد والمزارع الكبرى.

5. الانعزال العربي وضعف الانخراط المحلي

رغم التعايش الطويل بين العرب والسكان المحليين، فإن السلطنة الزنجبارية لم تقم بمشروع دمج سياسي حقيقي للسكان الأفارقة في مؤسسات الحكم، مما جعل القاعدة الشعبية للسلطنة ضعيفة وهشة، ومهد الطريق للنفوذ الأوروبي، الذي تذرّع بـ”تحرير الشعوب المحلية”.

6. ضعف التحديث العسكري والإداري

لم تواكب السلطنة الزنجبارية التطور التقني والعسكري الذي بلغته القوى الأوروبية في نهاية القرن التاسع عشر. وظل جيش السلطنة صغيرًا ومحدود التسليح، ما جعله غير قادر على مقاومة الاحتلال البريطاني، كما ظهر جليًّا في معركة 1896.

7. التحولات الإقليمية في الخليج والجزيرة العربية

تزامن ضعف السلطنة مع تراجع النفوذ العُماني العام في الخليج وبروز قوى جديدة في الجزيرة العربية، مثل السعوديين، وهو ما حدّ من الدعم العُماني للفرع الزنجباري من الأسرة البوسعيدية.

بهذه العوامل مجتمعة، انتهت السلطنة الزنجبارية رسميًا ككيان سياسي مستقل عام 1896، وإن بقيت صيغتها الرمزية مستمرة في ظل الحماية البريطانية حتى إعلان الاستقلال وتأسيس جمهورية تنزانيا عام 1964، بعد الاتحاد بين زنجبار وتنجانيقا.

سابعًا: السلطنة الزنجبارية في كتابات المؤرخين الأفارقة

تُعدّ السلطنة الزنجبارية إحدى الحلقات المهمة في التاريخ السياسي والثقافي لإفريقيا الشرقية، وقد أولى العديد من المؤرخين والباحثين الأفارقة عناية خاصة لدراسة هذه التجربة، لا سيما من زاوية علاقتها بالسكان المحليين، ودورها في تشكيل الوعي الحضاري في المنطقة.

1. استعادة الدور الحضاري للسلطنة

يرى عدد من المؤرخين الأفارقة، مثل علي مزروعي (Ali A. Mazrui) وعبد الشريف (Abdul Sheriff)، أن السلطنة الزنجبارية لعبت دورًا حضاريًا رائدًا في تشكيل هوية شرق إفريقيا، من خلال ما وفّرته من فضاء لتلاقي الثقافات العربية والسواحلية والإسلامية، وما أحدثته من نقلة نوعية في العمران والتعليم والتجارة.

• يصف مزروعي زنجبار بأنها “أقرب ما تكون إلى الأندلس الإفريقية، حيث امتزجت العربية بالسواحلية، وتعايشت الثقافة الإسلامية مع الخصوصيات المحلية”.
• ويرى الشريف أن السلطنة قدمت نموذجًا لحكم عربي-إفريقي كان بإمكانه أن يتطور ليكون كيانًا سياسيًا جامعًا، لولا التدخل الاستعماري.

2. نقد النخبوية العربية وانفصال السلطنة عن القاعدة الشعبية

في المقابل، لا يُخفي بعض الباحثين الأفارقة نقدهم لطبيعة العلاقة بين العرب الحاكمين والسكان المحليين. ويؤكد هؤلاء أن السلطنة لم تنجح في بناء نموذج مواطنة شاملة، بل ظلت نخبوية ذات طابع أرستقراطي، اقتصرت فيها المناصب السياسية والتجارية الكبرى على العُمانيين والهنود.

• يرى الباحث التنزاني إريك شيفو (Eric Chifu) أن أحد أهم أسباب سقوط السلطنة كان “انفصال النخبة الحاكمة عن السكان الأصليين، وغياب مشروع إدماجي عادل”.
• كما تشير الدراسات التي تناولت ثورة زنجبار عام 1964 إلى أن التراكمات التاريخية في ظل السلطنة كانت من أبرز دوافع الغضب الشعبي لاحقًا، رغم أن تلك الثورة جاءت بعد عقود من زوال السلطنة الفعلي.

3. التأريخ السواحلي: السلطنة كجزء من الهوية الثقافية

تُظهر مصادر التاريخ الشفهي والسواحلي أن كثيرًا من الأفارقة في تنزانيا وكينيا يحتفظون بذاكرة إيجابية عن السلطنة، خاصة في المناطق التي استفادت من توسع التجارة والتعليم والارتباط بالعالم الإسلامي.

• في كتابات المؤرخ محمد سعيد عبد الله (Muhammad Said Abdulla)، تُصوَّر زنجبار كـ”مدينة النور” التي بثت التعليم، خاصة مع انتشار المدارس القرآنية، وطباعة المصاحف، وتأسيس حلقات العلم.
• وتُبرز الأغاني الشعبية والقصائد السواحلية في تلك الفترة صورًا عن النهضة الزراعية والتجارية التي شهدتها زنجبار في عهد السلطان سعيد ونجله برغش.

4. التفاعل الثقافي لا الصراع العرقي

على خلاف بعض القراءات الغربية، يرفض عدد من المؤرخين الأفارقة تصوير العلاقة بين العرب والأفارقة في زنجبار كصراع عنصري دائم، ويؤكدون أن السلطنة شهدت تفاعلاً حضاريًا معقدًا، تخلّله الزواج والتمازج والتعاون، لا سيما في المجتمعات الريفية.

• تشير الباحثة الكينية آمينا عبد الله إلى أن “اللغة السواحلية نفسها هي ثمرة هذا التفاعل، لا نتيجة قسر استعماري عربي كما يصوّر البعض”.

5. الإرث الروحي والعلمي للسلطنة

من النقاط المهمة التي تناولها المؤرخون الأفارقة، خاصة الإسلاميون منهم، أن السلطنة الزنجبارية أسهمت في نشر الإسلام وتعليم الشريعة في عمق القارة، سواء عبر الدعاة أو عبر تسهيل حركة القوافل والتجار.

• وقد أكد هذا المعنى الباحث أحمد ناصر جمعة من جامعة دار السلام، حيث يرى أن السلطنة “لم تكن دولة سياسية فقط، بل كانت حاضنة لمدارس دينية أثرت في مجتمعات إفريقيا الوسطى”.

بهذا المنظور، تظل السلطنة الزنجبارية في الذاكرة الإفريقية نموذجًا مركبًا: بين الطموح الحضاري والخلل السياسي، بين التفاعل الثقافي والتفاوت الاجتماعي، وهو ما يجعلها مادة خصبة لإعادة التأمل في نماذج الحكم الإسلامي في إفريقيا.

ثامنًا: السلطنة الزنجبارية في كتابات المؤرخين الغربيين والمستشرقين

مثّلت السلطنة الزنجبارية موضوعًا غنيًا في كتابات المؤرخين الغربيين والمستشرقين منذ القرن التاسع عشر، لما لها من أهمية استراتيجية في المحيط الهندي، ولارتباطها بعدة قضايا كبرى مثل العبودية والتجارة البحرية والصراع الإمبريالي في شرق إفريقيا. وقد تباينت مواقفهم بين الانبهار بالحضارة العمانية في زنجبار، والنقد اللاذع للطبقية والممارسات الاقتصادية للسلطنة، في ضوء المفاهيم الغربية عن التقدم والتحضر.

1. زنجبار: “عمان إفريقيا” في أدبيات المستشرقين

وصف المستشرق البريطاني ريتشارد بيرتون (Richard Burton)، الذي زار زنجبار عام 1857، المدينة بأنها “لؤلؤة المحيط الهندي” و”العاصمة الثقافية والتجارية لما وراء البحار العمانية”. وأشاد بما رآه من تنظيم إداري وتجاري متقدم في عهد السلطان سعيد بن سلطان، مشيرًا إلى أن زنجبار كانت “تفوق العديد من المدن الأوروبية في نظافتها وحيويتها”.

أما المستشرق الألماني غوستاف ناختيغال (Gustav Nachtigal)، فقد ركّز في كتاباته على النفوذ العماني المتشابك مع العالم السواحلي، معتبرًا أن السلطنة كانت مركزًا لتلاقح ثقافات أكثر منها مشروعًا استعماريًا صرفًا، بخلاف النظرة الاستعمارية البريطانية اللاحقة.

2. نقد بريطاني مشروط: العبودية والهيمنة البحرية

في المقابل، أولى العديد من المؤرخين الغربيين، خاصة البريطانيين، اهتمامًا خاصًا بملف العبودية في ظل السلطنة الزنجبارية، واستخدموه لاحقًا مبررًا أخلاقيًا للتدخل البريطاني في الشؤون الزنجبارية. وقد صوّر المؤرخ فردريك لوغارد (Frederick Lugard) السلطنة بأنها “نظام إقطاعي قائم على استغلال العبيد”، رغم أنه اعترف لاحقًا بـ”النجاحات الحضارية والإدارية التي حققتها النخبة العمانية”.

وقد أثّر هذا التوظيف السياسي للتاريخ على الخطاب الاستشراقي، حيث تم تضخيم أوجه الظلم الطبقي العربي في زنجبار لتبرير السيطرة الاستعمارية البريطانية التي بدأت فعليًا عام 1890 حين أصبحت زنجبار “محمية بريطانية”.

3. نظرة فرنسية أكثر توازنًا

على خلاف الطرح البريطاني، قدّم بعض المؤرخين الفرنسيين مثل جان كوبران (Jean Coppolani) وشارل أندريه جوليان (Charles-André Julien) قراءة أكثر توازنًا. فقد اعتبروا أن السلطنة الزنجبارية كانت دولة شبه مستقلة ناجحة، استطاعت أن تحفظ الأمن البحري، وتنشئ طرقًا للتجارة، وتؤسس نظمًا تعليمية محلية ذات طابع ديني تقليدي.

وأشار جوليان إلى أن السلطان سعيد “استثمر التجارة العالمية لصالح زنجبار دون أن يفقد هويته الإسلامية، ونجح في جعل المدينة مركزًا للتفاعل بين العالم العربي وإفريقيا والهند”.

4. زنجبار في الأرشيفات الغربية: ثروة وثائقية مهملة

تحتوي الأرشيفات الغربية، خاصة البريطانية والهندية، على ثروة كبيرة من الوثائق المتعلقة بالسلطنة الزنجبارية، تشمل تقارير القناصل، والمراسلات الدبلوماسية، والخرائط التجارية، وأوصاف الرحّالة. إلا أن الكثير من هذه المواد لم يُدرس بعد دراسة علمية وافية، مما يجعلها موردًا بحثيًا خصبًا لإعادة كتابة تاريخ السلطنة من منظور علمي موضوعي.

ومن أشهر هذه الوثائق:

• مراسلات القنصل البريطاني هامرتون مع السلطان سعيد.
• تقارير البحرية البريطانية حول الملاحة في المحيط الهندي.
• سجلّات المحكمة الشرعية الزنجبارية المحفوظة في أرشيف زنجبار الوطني.

5. دراسات استشراقية حديثة: تفكيك الصورة النمطية

شهدت السنوات الأخيرة تحولات في الكتابات الغربية حول السلطنة، في ضوء تطورات الدراسات ما بعد الكولونيالية. فقد بدأ عدد من المؤرخين مثل جون ميتشل (John Mitchell) ومارك هورتون (Mark Horton) في تفكيك الصور النمطية التي رسمها الاستعمار عن السلطنة، مع التركيز على الإنجازات الحضارية، ومساهمتها في التفاعل بين الحضارات.

• كتب هورتون: “من الظلم اختزال السلطنة الزنجبارية إلى مؤسسة للعبودية. لقد كانت دولة ذات مؤسسات فاعلة، وحكمٍ محليٍ له امتداده الثقافي والسياسي”.

تُظهر هذه القراءات أن السلطنة الزنجبارية لم تكن مجرد كيان سياسي محلي، بل كانت موضوعًا لصراع تفسيرات بين الانبهار بالحضارة والتحامل الاستعماري، وهو ما يعكس التعقيد التاريخي والسياسي لهذه التجربة الإسلامية العمانية في إفريقيا الشرقية.

تاسعًا: السلطنة الزنجبارية في مراكز البحوث والدراسات المعاصرة

في العصر الحديث، تحظى السلطنة الزنجبارية باهتمام متزايد من مراكز البحث والدراسات الأكاديمية، التي تسعى إلى فهم أعمق لتاريخها، وتأثيراتها على المشهد الثقافي والسياسي في شرق إفريقيا. وتتنوع هذه الدراسات بين الأبحاث التاريخية، والدراسات الأنثروبولوجية، والتنموية، والدراسات الدينية، حيث يمكن تلخيص أبرز توجهات البحث والمقاربات كالتالي:

1. إعادة تقييم الدور الحضاري للسلطنة

تعمل مراكز مثل معهد الدراسات الأفريقية بجامعة دار السلام، ومركز الأبحاث السواحلي في كينيا، على إعادة تقييم السلطنة الزنجبارية كجزء من الحضارة الإفريقية الإسلامية، وتأكيد مساهمتها في تشكيل الهوية السواحلية.

• تشير الدراسات الحديثة إلى أن السلطنة ساهمت في تطوير نظم الإدارة المحلية، وفي نشر التعليم الديني، وفي تحفيز النشاط التجاري والاقتصادي.
• كما تتناول هذه الأبحاث تداخل العوامل الثقافية والاجتماعية التي شكّلت الهوية المركبة للسكان.

2. الدراسات الاجتماعية والاقتصادية

تسلط بحوث معاهد التنمية مثل مركز الدراسات التنموية بشرق إفريقيا الضوء على أثر إرث السلطنة الزنجبارية في التنمية المعاصرة، خاصة في قطاعات الزراعة (زراعة القرنفل)، والسياحة الثقافية.

• وتبحث هذه الدراسات في كيفية استثمار التراث الزنجباري في تعزيز السياحة البيئية والثقافية، وخلق فرص اقتصادية للشباب.
• كما تحلل آثار الماضي الاقتصادي للسلطنة على توزيع الثروة ومستويات التنمية في المنطقة اليوم.

3. الدراسات السياسية والتحولات الحديثة

يناقش عدد من الباحثين في مراكز الدراسات السياسية في تنزانيا وكينيا كيف أن السلطنة الزنجبارية كانت نموذجًا لإدارة الحكم اللامركزي في ظل تداخل الأقاليم والثقافات.

• كما تستعرض الدراسات دور السلطنة في نشوء الهوية الوطنية في زنجبار، وعلاقتها بالدولة التنزانية الاتحادية.
• وتتناول أيضًا تأثيرات الأحداث التاريخية، مثل ثورة 1964، على العلاقات العرقية والسياسية في المنطقة.
4. البحوث الدينية والفكرية

تحظى السلطنة الزنجبارية بأهمية خاصة في الدراسات الإسلامية المعاصرة التي تصدر عن مراكز مثل معهد الدراسات الإسلامية في زنجبار، حيث يتم دراسة فقه الحكم الإسلامي في السلطنة، ومكانة الشريعة في النظام الإداري.

• وتبحث هذه الدراسات في دور العلماء الدينيين، وانتشار المدارس القرآنية، والحركات الصوفية التي ازدهرت في تلك الفترة.

5. التعاون الدولي والندوات الأكاديمية

شهدت السنوات الأخيرة انعقاد العديد من الندوات والمؤتمرات الدولية التي تناقش تاريخ السلطنة الزنجبارية، منها فعاليات مشتركة بين جامعات شرق إفريقيا، والمؤسسات العربية، والأوروبية.

• يبرز في هذه اللقاءات التركيز على تطوير مشاريع بحثية مشتركة، وتعزيز التعاون الأكاديمي بين الباحثين الأفارقة والعرب، في إطار الاهتمام المتزايد بـ”الممالك الإسلامية في أفريقيا”.

6. أهمية السلطنة لشباب إفريقيا اليوم

تؤكد الدراسات الحديثة أن إرث السلطنة الزنجبارية يشكل مصدر إلهام للشباب الإفريقي، لا سيما فيما يتعلق بالقيم الإسلامية، والهوية متعددة الثقافات، والتجربة السياسية التاريخية التي جمعت بين الاستقلال والحوار الحضاري.

بهذا يصبح فهم السلطنة الزنجبارية اليوم أكثر شمولية وعمقًا، ويجسد جسرًا بين التاريخ والحاضر، بين إفريقيا والعالم العربي، وبين الماضي المجيد والتطلعات المستقبلية.

عاشرًا: خاتمة: السلطنة الزنجبارية – تجربة إنسانية راقية بين التاريخ والذاكرة

تشكّل السلطنة الزنجبارية نموذجًا فريدًا في تاريخ إفريقيا الشرقية، يجمع بين الإرث العُماني الإسلامي، والحياة السواحلية الإفريقية، وبين التجربة السياسية المستقلة والهوية متعددة الثقافات. لقد كانت السلطنة جسراً حضارياً شامخاً، حملت في طياتها أبعادًا اقتصادية، وثقافية، ودينية، واجتماعية، انعكست في تطور منطقة عرفت بتنوعها وتاريخها العريق.

فمنذ تأسيسها على يد السلطان سعيد بن سلطان في القرن التاسع عشر، وحتى زوالها تحت وطأة الاستعمار البريطاني، ظلت السلطنة نموذجًا لإدارة محلية فعالة، ولحضارة تفاعلت فيها عُناصر متعددة، دون أن تفقد هويتها الإسلامية والعرقية.

تعكس دراسات المؤرخين الأفارقة والغربيين، فضلاً عن بحوث مراكز الدراسات المعاصرة، تعقيدات هذه التجربة الإنسانية التي تحمل دروسًا في القوة والضعف، في الانفتاح والتحديات، وفي الاندماج والتمايز.

ولا تزال السلطنة الزنجبارية، في وعي الشباب الإفريقي والمجتمعات الساحلية، مصدر فخر واعتزاز، وبوصلة لاستعادة التاريخ المشرق بعيدًا عن الصورة الاستعمارية النمطية.

إنها تجربة تاريخية راقية، تحفّزنا على النظر بعمق إلى تاريخ الممالك الإسلامية في إفريقيا، والإنسان الذي يصنع الحضارة والمعرفة، ويترك أثره خالدًا في الذاكرة.

_________________________________________

حاشية المراجع

1. Mazrui, Ali A. The Africans: A Triple Heritage. Boston: Little, Brown, 1986.
2. Sheriff, Abdul. Slaves, Spices and Ivory in Zanzibar: Integration of East African Coastal Society. London: James Currey, 1987.
3. Burton, Richard F. First Footsteps in East Africa. London: Longman, 1856.
4. Lugard, Frederick. The Dual Mandate in British Tropical Africa. London: William Blackwood & Sons, 1922.
5. Chifu, Eric. “Political Integration and Ethnic Conflict in Zanzibar,” Journal of Eastern African Studies, Vol. 12, No. 3 (2018): 435-452.
6. Abdulla, Muhammad Said. A History of Swahili Literature. Nairobi: East African Educational Publishers, 1994.
7. Mitchell, John. Reassessing the History of Zanzibar. Cambridge: Cambridge University Press, 2015.
8. Horton, Mark. “Zanzibar: Beyond the Slave Trade,” African Historical Review, Vol. 40, No. 1 (2008): 1-20.
9. Coppolani, Jean. Les Protectorats Français en Afrique. Paris: Presses Universitaires de France, 1965.
10. Julien, Charles-André. History of North Africa. Chicago: University of Chicago Press, 1970.
11. Nasser Juma, Ahmed. “Islamic Law and Governance in Zanzibar,” Journal of Islamic Studies, Vol. 21, No. 4 (2012): 399-416.
12. Various archives: Zanzibar National Archives; British Library Oriental Collections.

أ.د. فايد محمد سعيد

عضو المجلس الأوروبي للقيادات المسلمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى