المقالات

يوميات لندن (5): SOAS… الذاكرة الأكاديمية بين الشرق والغرب

«يوميات لندن»

في قلب لندن، لا بعيدًا عن مكتبة الجامعة ومحاكم العدل، يقع مبنى يحمل في اسمه وكتبه وأروقته كل تناقضات العلاقة بين الشرق والغرب، بين المستعمر والمستَعمَر، بين الباحث والموضوع… إنه معهد الدراسات الشرقية والإفريقية (SOAS).

ليس معهدًا عاديًا، بل خزانة فكرية عملاقة، تأسس في لحظة تاريخية كانت فيها الإمبراطورية البريطانية في أوج اتساعها، تسعى لفهم “الآخر” الذي تحكمه، تدرسه، تُؤوّله، وأحيانًا تُخضعه باسم المعرفة.

لكن الزمن تغيّر.

فقد أصبحت SOAS اليوم واحدة من أهم مؤسسات البحث الأكاديمي في الإسلام، واللغات الشرقية، والتاريخ الإفريقي والآسيوي. وقد تشرفت بالمشاركة في بعض ندواتها، والحوار مع عدد من باحثيها وطلابها، ورأيت فيها ملتقى عالميًا للفكر النقدي، والطرح غير التقليدي، وإعادة قراءة العالم من زوايا متعددة.

ما يميز هذا المعهد ليس فقط غزارة المعرفة، بل جرأته في طرح الأسئلة الصعبة:
• كيف ندرس الإسلام خارج الأطر الاستشراقية؟
• ما حدود التأويل في النصوص المقدسة؟
• هل يمكن فصل السياسة عن الدين في دراسات ما بعد الكولونيالية؟
• وكيف يكتب الإفريقي تاريخه بعدما كُتب عنه كثيرًا، لكنه لم يُكتب بنفسه؟

وفي قاعات المكتبة، رأيت طلابًا من كل أنحاء العالم يدرسون:
القرآن بلغة إنجليزية دقيقة،
والسنة في ضوء الفلسفة،
والتاريخ الإسلامي من خلال النقد البنيوي والتحليل الخطابي.

ولئن كان في هذا أحيانًا نزعة تفكيكية تؤرّق المؤمن البسيط، إلا أنه من واجبنا – كعلماء وأكاديميين – ألا نُقصي هذه الفضاءات، بل أن نشارك فيها، نحاورها، نُصوّب، ونُستفزّ لنفكّر ونعمّق أدواتنا.

فالانكفاء لا يصنع خطابًا، والانغلاق لا يبني معرفة.

ما أجمل أن ترى طالبًا من كينيا يناقش أثر ابن خلدون، وطالبة من اليابان تكتب عن التعدد الفقهي، وشابًا من لندن يقرأ تفسير الطبري بلغة إنجليزية أكاديمية رصينة. هنا، في SOAS، ترى الإسلام كما ينبغي أن يُرى: حضارةً حيّة تُدرَس وتُسائل وتُستأنف.

معهد الدراسات الشرقية والإفريقية ليس مجرد مؤسسة، بل هو مرآة نقدية… نحتاجها لنعرف كيف نُرى، ولنفكر كيف نُعرّف أنفسنا.

أ.د. فايد محمد سعيد

عضو المجلس الأوروبي للقيادات المسلمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى