في لحظة محورية من تاريخ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، برزت الدبلوماسية السعودية بثقلها السياسي، لتُعيد توجيه البوصلة الدولية نحو حلّ عادل للقضية الفلسطينية، حيث شاركت المملكة في رئاسة مؤتمر دولي رفيع المستوى بالأمم المتحدة، إلى جانب فرنسا، خصّص لتسوية القضية الفلسطينية عبر الوسائل السلمية وتفعيل حلّ الدولتين. وقد عكس الحضور الكثيف لوزراء الخارجية وكبار المسؤولين من مختلف دول العالم حجم التأييد المتنامي لحلٍّ ينهي الاحتلال ويؤسّس لسلام دائم في المنطقة.
المؤتمر الذي عُقد تنفيذاً لقرار سابق من الجمعية العامة للأمم المتحدة، يمهّد لانعقاده الرسمي في سبتمبر المقبل، بعدما تأجّل في يونيو بسبب التصعيد العسكري بين إسرائيل وإيران. غير أن الأهم من موعده كان مضمونه، إذ تجاوز الشعارات المعتادة التي تدعو إلى “إحياء المفاوضات”، وانصبّ التركيز على ضرورة الانتقال إلى التنفيذ الفعلي لحلّ الدولتين، وفقًا للمرجعيات والقرارات الدولية المعتمدة.
وفي تحوّل لافت، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نية بلاده الاعتراف رسميًا بدولة فلسطين، خلال أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة المقبلة، استجابة مباشرة لتحركات دبلوماسية نشطة تقودها المملكة العربية السعودية منذ أشهر، سعيًا لتعزيز الاعتراف الدولي بالحقوق الفلسطينية. وقد فتح هذا الإعلان الباب أمام موجة دعم أوروبي، تُرجمت سريعًا برسالة موقعة من 221 نائبًا بريطانيًا ينتمون إلى مختلف الأحزاب، يطالبون حكومتهم بالاعتراف بدولة فلسطين، معتبرين أن التصعيد الإسرائيلي الأخير في غزة لم يعد ممكنًا تبريره.
كلمة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان عكست وضوح الرؤية السعودية، حين دعا إلى تبني مبادرة السلام العربية كأساس عادل وشامل للحل، مشددًا على أهمية تفعيل التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين، كإطار عملي لمتابعة مخرجات المؤتمر. أما الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، فكان حاسمًا بقوله إن الدولة الفلسطينية “حق لا بديل عنه”، وإن طرد الفلسطينيين واحتلال أراضيهم لا يمكن وصفه بالسلام.
ولم يكن هذا الحراك مفاجئًا، بل جاء امتدادًا لدورٍ سعودي طويل في نصرة القضية الفلسطينية، تُوّج في سبتمبر من العام الماضي بإطلاق المملكة، إلى جانب النرويج والاتحاد الأوروبي، لتحالف دولي غير مسبوق لتنفيذ حل الدولتين. وقد شكل هذا التحالف منصة لتوحيد المواقف الدولية، وتعبئة الإرادة السياسية العالمية باتجاه سلام عادل وشامل.
وفي قلب هذه الديناميكية السياسية المتصاعدة، تواصل المملكة استخدام أدواتها الدبلوماسية كافة، من الحوارات الثنائية إلى المؤتمرات الدولية، لتثبيت القضية الفلسطينية على أجندة المجتمع الدولي. وفي ظل المجازر اليومية التي يرتكبها الاحتلال في غزة، لم تكتف الرياض بالإدانة، بل قادت مسارًا عمليًا يضع إسرائيل تحت ضغط أخلاقي وقانوني متزايد.
رئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى عبّر عن الامتنان لهذه الجهود، مؤكدًا أن “السعودية أنضجت الاعترافات الدولية بدولة فلسطين”، وأنّ تنفيذ حلّ الدولتين يمثل الطريق الوحيد لتحقيق السلام والأمن في المنطقة.
إنّ ما تقوم به المملكة يتجاوز منطق الوساطة التقليدية، إلى صياغة مشهد سياسي جديد، تكون فيه فلسطين جزءًا من رؤية أوسع للاستقرار الإقليمي، قائمة على العدالة واحترام حقوق الشعوب. فالدبلوماسية السعودية، بما تمتلكه من رصانة ووزن دولي، تبرهن أنها لا تنتظر اللحظة المناسبة، بل تصنعها.
وبهذا النهج، تواصل المملكة ترسيخ مكانتها كقوة مسؤولة وفاعلة، لا تكتفي بإدارة الأزمات، بل تسعى إلى حلّها من جذورها، عبر تحالفات بنّاءة ومبادرات واقعية، تجعل من الرياض اليوم مركزًا لصناعة السلام، ومفتاحًا لحلّ واحد من أكثر النزاعات استعصاءً في التاريخ المعاصر. وفي زمن تداخل الحسابات وتشظي المواقف، تبدو السعودية صوتًا عاقلاً يملك الشجاعة والقدرة على توجيه البوصلة العالمية نحو الحق.






