عام

يوميات لندن (6): مساجد المدينة… مآذن في أرض المطر

أن تكون مسلمًا في لندن، يعني أنك حين تسمع “الله أكبر” من مئذنة ترتفع بين البنايات الحديثة، تعلم أن الروح لا تزال حيّة في قلب الزحام، وأن للإيمان جذورًا ضاربة في مدينة تعيش على نبض الساعة، وتفكّر بلغة الاقتصاد والتنوع والقانون.

لندن مدينة المئذنة الخجولة، والمحراب الذي يقف ثابتًا وسط العواصف الفكرية.
فيها ما يزيد على 500 مسجد، تتوزع على أحياء المدينة كأوردة تسري فيها روح الصلاة، وتنبض فيها حياة الجاليات الإسلامية من أصول آسيوية، عربية، أفريقية، وأوروبية.

في “ريجنت بارك”، حيث أتشرف بالخطابة والإمامة، وأحمل مسؤولية الأمانة العامة لهيئة الفتوى والشؤون الشرعية، ترى المسجد المركزي شامخًا بأناقته المعمارية وصوت مؤذّنه، وهو لا يعبّر فقط عن مكان للعبادة، بل عن مرجعية دينية، ومركز علمي، ومنبر لوحدة المسلمين في أوروبا.

ومن ريجنت بارك إلى “وايت تشابل”، حيث مسجد شرق لندن، الذي يُعد من أكبر المساجد الشعبية وأقدمها، ويشهد كثافة شبابية ملفتة، وتنوعًا لافتًا في الفعاليات الدعوية والاجتماعية.

وفي ضواحي الجنوب، مساجد مثل “توتنغ” و”كرويدون”، تنبض بالحياة، وتعكس كيف استطاعت الجاليات المسلمة أن تحوّل المساحات الصغيرة إلى منارات هدى ورحمة.

ولا يمكن الحديث عن مساجد لندن دون التوقف عند مسجد هانسلو الكبير، القريب من مطار هيثرو، والذي يتميز بسعة مصلاه، وامتداد مواقف السيارات، واحتضانه لأعداد غفيرة من المصلين. ومن أبرز ما يُميّزه عن غيره من المساجد في العاصمة أن أئمته من الشباب المولودين في لندن، ممن جمعوا بين العلم الشرعي، وفهم الواقع البريطاني، والقدرة على التواصل مع الجيل الجديد بروح عصرية وأسلوب جذّاب، فكانوا جسرًا حيًّا بين الثوابت الإسلامية ومتطلبات الحياة الغربية.

وكذلك مسجد هارو الكبير، الذي يتكون من أربعة طوابق عامرة، ويتشرف كاتب هذه السطور بأنه تولّى فيه رئاسة الشؤون الشرعية والتعليمية، وهو مسجد يجمع بين عراقة البناء، وتنوع البرامج، ورسوخ الدور التربوي في خدمة المجتمع المحلي.

لكن ما يُميز هذه المساجد ليس عددها، بل أنها مؤسسات نابضة بالمجتمع، تتجاوز الجدار والمحراب، لتُعالج مشاكل الأسرة، وتصدر الفتاوى، وتدير الحوار مع الجوار، وتُقيم الأنشطة الشبابية، والدورات التأهيلية، وحفلات الزواج، وحتى الجنائز.

المسجد هنا ليس مرفقًا ثانويًا، بل مركز وجود.

وكما أن المساجد في لندن تختلف في البنية والخطاب، فإنها تتفق في أنها تواجه تحديات مشتركة:
• فهم الواقع الغربي من منظور شرعي.
• مواجهة الإسلاموفوبيا.
• تربية الجيل الثاني والثالث على الثقة والانتماء.
• إدارة التعدد المذهبي واللغوي والعرقي بحكمة واعتدال.

وقد وجدت – من خلال عملي في هيئة الفتوى ومجالس العلماء – أن هذا التنوع هو ثراء لا تهديد، إذا ما وُجّه بحكمة واستند إلى العلم.

في لندن، المساجد لا تكتفي أن ترفع الأذان، بل تهمس للمجتمع كله: نحن هنا، لا نغيب، ولا ننعزل، بل نشارك وننفع ونبني.

مساجد لندن ليست فقط بيوتًا لله، بل بيوتًا للإنسان… تحرس إيمانه في غربته، وتنير له دربه في عتمة المدنية.

أ.د. فايد محمد سعيد

عضو المجلس الأوروبي للقيادات المسلمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى