المقالات

مملكة لوبا-لاندا: الإسلام على تخوم الغابات الإفريقية

1- الممالك الإسلامية في أفريقيا: الإنسان، المعرفة، والتاريخ المنسي –

مدخل عام

شهدت القارة الإفريقية، منذ القرن السابع الميلادي، تفاعلاً حضاريًا وثقافيًا واسعًا مع الإسلام، لم يقتصر على الشمال أو الشرق، بل امتد إلى أعماق الغابات المطيرة والسهول الداخلية. وقد أفرز هذا التفاعل نشوء ممالك إسلامية حملت سمات محلية فريدة، مزجت بين التعاليم الشرعية والتقاليد القبلية، وأقامت شبكات سياسية واقتصادية متصلة بالعالم الإسلامي.

ومع أن الذاكرة التاريخية العربية والغربية كثيرًا ما ركزت على ممالك الساحل والسافانا مثل مالي، وسونغاي، وكانم-برنو، فإن ممالك تخوم الغابات، مثل لوبا-لاندا، ظلت أقل شهرة رغم دورها البارز في تشكيل الهوية الدينية والثقافية لمناطق وسط أفريقيا.

2. تمهيد: مملكة لوبا-لاندا – الإسلام على تخوم الغابات الإفريقية

تقع مملكة لوبا-لاندا في ما يعرف اليوم بجنوب شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، على أطراف الهضبة الكاتنجية الغنية بالمعادن. وقد كانت المنطقة قبل نشوء المملكة مسرحًا لتحالفات قبلية متغيرة وصراعات محلية على الموارد، حتى تبلورت سلطة سياسية موحدة في أواخر القرن السابع عشر الميلادي.

يشير المؤرخ الكونغولي جوزيف كابويا (Joseph Kabuya) إلى أن:

“لوبا-لاندا كانت حلقة وصل بين عوالم مختلفة: السافانا الإسلامية شمالًا، والغابات الاستوائية جنوبًا، ومناطق التعدين شرقًا، وأنها مثّلت نموذجًا فريدًا في إدماج الإسلام ضمن بيئة غنية بالرموز الثقافية المحلية”【Kabuya, Histoire du Katanga, 1998, p. 112】.

3. التأسيس: السياق التاريخي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي

3.1 الظروف التاريخية والسياسية

نشأت مملكة لوبا في أواخر القرن السابع عشر، في فترة تميزت بضعف الممالك المجاورة مثل مملكة كونغو وتراجع نفوذ بعض سلطات السافانا الإسلامية نتيجة صراعات داخلية. هذا الفراغ السياسي أتاح لقادة محليين، ذوي رؤية تنظيمية، توحيد القبائل تحت سلطة مركزية.

ويذكر المؤرخ البلجيكي فرانسوا بنيوا (François Beniot) أن:

“الظرف التاريخي الأهم لقيام لوبا كان انتقال مركز الثقل التجاري من السواحل إلى الداخل الإفريقي، بسبب اضطراب طرق المحيط الأطلسي وتزايد أهمية طرق النحاس والعاج عبر أراضي الكونغو”【Beniot, Les Royaumes Africains, 1975, p. 203】.

3.2 العوامل الاقتصادية والاجتماعية

التجارة: شكلت تجارة النحاس والعاج والملح ركيزة الاقتصاد، وكانت المملكة تتحكم في شبكات تجارية تصل حتى سواحل المحيط الهندي.
الهجرات: تدفق الدعاة والتجار من الساحل الشرقي، ولا سيما من زنجبار وكيلوا، جالبين معهم الإسلام واللغة السواحيلية.
التحالفات القبلية: اعتمد المؤسسون على بناء تحالفات مع زعماء القبائل المجاورة، مقدمين لهم امتيازات في التجارة والحكم المحلي مقابل الولاء.

 

3.3 بداية التأثير الإسلامي

وصل الإسلام إلى لوبا عبر موجتين رئيسيتين:

موجة التجار المسلمين من الساحل الشرقي (عبر زنجبار وكيلوا)، حاملين معهم المصاحف والعلماء.
موجة اللاجئين السياسيين من الشمال، من بعض ممالك السافانا التي تعرضت للتفكك، وجلبوا معهم خبرات إدارية وتنظيمية.

4. المؤسسون وأبرز القادة: السيرة الذاتية والإنجازات

4.1 كالالا إيلونغا (Kalala Ilunga) – المؤسس الفعلي

الميلاد والنشأة: وُلد في النصف الثاني من القرن السابع عشر في أسرة زعامة محلية. تلقى تعليمه الأولي في بيئة تقليدية، لكنه تأثر بالتجار المسلمين الوافدين، الذين أدخلوا مبادئ التنظيم الإداري.
الدور السياسي: نجح في توحيد عدد من القبائل المتفرقة تحت سلطة مركزية، ووضع أسس الحكم الوراثي.
العلاقة بالإسلام: كان منفتحًا على التعاليم الإسلامية، ودعا بعض العلماء لتولي مهمة التعليم في العاصمة الملكية.
الإنجاز الأبرز: تأسيس العاصمة كانانغا كمركز إداري وتجاري.

4.2 إيلونغا سوندي (Ilunga Sundi) – الموحد والموسع

السياسة الخارجية: أقام تحالفات مع ممالك مسلمة في الشرق، وفتح قنوات تجارة مع السواحل الشرقية للمحيط الهندي.
الدور الديني: أمر ببناء أول مسجد في العاصمة، وإن كان على النمط المحلي الممزوج بعناصر معمارية إفريقية.

4.3 الملكة موانج سانغا (Mwange Sanga) – القائدة الإصلاحية

الدور السياسي: تولت الحكم في فترة انتقالية بعد صراع على العرش، وحافظت على وحدة المملكة.
الإصلاحات: شجعت تعليم البنات، وأدخلت بعض القوانين المستمدة من الفقه الإسلامي في قضايا الزواج والميراث.
مكانتها في الذاكرة: تعتبر عند النساء في المنطقة رمزًا للقوة والحكمة، وما زالت سيرتها تتردد في الأغاني الشعبية.

5. الرقعة الجغرافية للمملكة

امتدت مملكة لوبا-لاندا على مساحة واسعة من الهضبة الكاتنجية في الجنوب الشرقي من جمهورية الكونغو الديمقراطية، متوغلة شمالًا حتى مشارف مجرى نهر الكونغو، وجنوبًا نحو حدود زامبيا الحالية.

 

5.1 المميزات الجغرافية

الهضبة الكاتنجية: غنية بالنحاس والكوبالت والحديد، مما جعلها مركزًا لصناعات معدنية تقليدية.
الغابات الاستوائية: وفرت موارد خشبية وزراعية.
الممرات النهرية: شكلت الأنهار وروافدها شرايين مواصلات طبيعية.

6. الإنجازات العسكرية والاقتصادية والعلمية

6.1 المجال العسكري

جيش منظم يضم محاربين محليين ووحدات من القبائل المتحالفة.
استخدام أسلحة معدنية محلية الصنع.

6.2 المجال الاقتصادي

التجارة: النحاس والعاج والملح أساس الاقتصاد.
الزراعة: الذرة والكسافا والموز بدعم من نظم ري بسيطة.
الحرف: صناعة الأدوات المعدنية والفخار المزخرف، مع نقوش عربية بسيطة.

6.3 المجال العلمي والثقافي

مدارس قرآنية في العاصمة.
استخدام الأبجدية العربية في السجلات.
حلقات فقهية للتجار والسكان.

7. الإخفاقات وأسباب الزوال

الاعتماد على التجارة الخارجية.
النزاعات الداخلية على الحكم.
التوسع الاستعماري البلجيكي وإنهاء الاستقلال في أواخر القرن التاسع عشر.

8. آراء المؤرخين الأفارقة والمستشرقين

8.1 المؤرخون الأفارقة

عبد الله نغونغا:

“لوبا-لاندا كانت جسرًا حضاريًا أدخل الإسلام إلى قلب الغابات، وجعلته جزءًا من الحياة اليومية”【Ngonga, Islam in Central Africa, 2004, p. 89】.

مويز كابانغو:

“المملكة كانت مركزًا للتلاقي الثقافي حيث امتزجت اللغة السواحيلية مع اللهجات المحلية”【Kabango, History of the Luba People, 2011, p. 143】.

8.2 المستشرقون

بيير لافيرن:

“الإسلام في لوبا-لاندا كان أكثر توظيفًا سياسيًا منه دينيًا”【Lavern, Les Sultans du Katanga, 1982, p. 57】.

جون همفريز:

“ساعد الإسلام على تنظيم الإدارة والعدالة، لكنه لم يتحول إلى دين الدولة الرسمي”【Humphreys, Trade and Faith in Central Africa, 1995, p. 211】.

9. آراء مراكز البحوث والدراسات

“لوبا-لاندا أسست لنموذج من التعايش بين الإسلام والأديان التقليدية، ساهم في نشر ثقافة التسامح”【UCT African Studies Journal, 2017, p. 144】.

10. دور المرأة في مملكة لوبا-لاندا: الملكة موانج سانغا نموذجًا

من أبرز ما يميز مملكة لوبا-لاندا، مقارنة بعدد من الممالك الإسلامية الإفريقية، هو الدور القيادي البارز الذي لعبته المرأة، حيث برزت الملكة موانج سانغا كواحدة من الشخصيات المحورية في تاريخ المملكة.

10.1 خلفية تولي الحكم

تولت موانج سانغا الحكم في فترة حساسة من تاريخ المملكة، عقب وفاة الملك إيلونغا سوندي، وسط صراع على العرش بين عدة فروع من الأسرة الحاكمة. كانت المملكة مهددة بالتفكك، خاصة مع الأطماع الخارجية وتراجع النشاط التجاري بسبب النزاعات.

10.2 الإدارة والسياسة

عملت على إعادة بناء التحالفات القبلية، وأعادت دمج بعض القبائل التي انسحبت من الاتحاد السياسي بسبب الصراعات.
استعانت بكبار العلماء والتجار المسلمين لتثبيت شرعيتها، مستفيدة من المكانة الدينية للإسلام في ربط الممالك الإفريقية بشبكات سياسية وتجارية أوسع.
دعمت التجارة عبر الممرات النهرية، وأبرمت اتفاقات سلام مع الممالك المجاورة، ما أعاد الاستقرار.

10.3 الإصلاحات الداخلية

أدخلت تعديلات قانونية مستوحاة من الفقه الإسلامي، خاصة في شؤون الزواج والميراث، مما زاد من الثقة في نظام الحكم.
شجعت تعليم البنات، وأسست حلقات قرآنية مخصصة لهن، في سابقة نادرة في بيئة الغابات.

10.4 الإرث التاريخي

يرى المؤرخ الكونغولي مويز كابانغو أن:

“الملكة موانج سانغا أثبتت أن المرأة في أفريقيا الوسطى لم تكن حبيسة المجال الخاص، بل كانت قادرة على قيادة الدول وحماية هويتها الدينية والسياسية، حتى في فترات الأزمات”【Kabango, History of the Luba People, 2011, p. 158】.

11. الأثر الباقي والدروس للشباب الإفريقي

11.1 الأثر الباقي في الحاضر

رغم أن مملكة لوبا-لاندا قد فقدت سيادتها السياسية مع التوسع الاستعماري البلجيكي في أواخر القرن التاسع عشر، فإن إرثها الحضاري والديني ما زال حاضرًا في نسيج الحياة الإفريقية حتى اليوم. يمكن تتبع هذا الإرث في عدة مظاهر:

البعد الديني: استمرار وجود أسر وعشائر مسلمة في إقليم كاتانغا تعود أصولها إلى التجار والعلماء الأوائل، ما زال بعضها يحافظ على ممارسة الشعائر الإسلامية بلغات محلية ممزوجة بمفردات عربية وسواحيلية.
العادات الاجتماعية: بقاء تقاليد الزواج والميراث المستوحاة من أحكام الشريعة، وإن كانت ممزوجة ببعض الأعراف المحلية، ما يعكس قدرة الإسلام على التكيف دون أن يفقد جوهره.
التراث الشفهي: احتفاظ المجتمع بقصص البطولات والأحداث الكبرى في عهد الملوك والقادة، وخاصة سيرة الملكة موانج سانغا، التي تروى في الأغاني والملاحم الشعبية باعتبارها رمزًا للحكمة والشجاعة.
الهوية الثقافية: إدماج مفردات إسلامية في الفنون والحرف والزخرفة، بما يربط الماضي بالحاضر في أشكال بصرية ورمزية.

11.2 الدروس والعبر للشباب الإفريقي

التكيف قوة وليست ضعفًا
يثبت تاريخ لوبا-لاندا أن القدرة على التكيف مع البيئة المحيطة، سواء في السياسة أو الثقافة أو الدين، ليست تنازلًا عن المبادئ، بل هي مهارة للبقاء والازدهار.
أهمية الوحدة السياسية
تجربة لوبا-لاندا تؤكد أن تماسك القبائل والمجتمعات تحت سلطة سياسية عادلة هو أساس القوة.
المرأة شريك في البناء والحماية
من خلال تجربة الملكة موانج سانغا، نتعلم أن المرأة قادرة على قيادة الدول وحماية الهُوية، وأن تمكينها له جذور عميقة في التاريخ الإفريقي.
القيم قبل الثروة
رغم وفرة الموارد، إلا أن الانهيار جاء عندما فقدت المملكة تماسكها القيمي والسياسي.
التاريخ مصدر أمل لا حزن
إذا كان أجدادنا قد نجحوا في بناء حضارة إسلامية وسط الغابات، فما الذي يمنع الجيل الحالي من النهوض؟

11.3 الأمل للمستقبل

إن استحضار إرث لوبا-لاندا ليس حنينًا إلى الماضي فقط، بل دعوة لاستلهام روح المبادرة، والشجاعة في مواجهة التحديات، والقدرة على الابتكار في أصعب البيئات.

12. الخاتمة

مملكة لوبا-لاندا مثال على قدرة الإسلام على التكيف في بيئات بعيدة عن مراكزه التقليدية، وإثبات أن المرأة لعبت دورًا مهمًا في حفظ الكيان السياسي والديني، وأن الشباب الإفريقي قادر على استلهام هذا التاريخ لبناء مستقبل أكثر قوة ووحدة.

13. المراج

Beniot, François. Les Royaumes Africains. Paris: Larousse, 1975.
Humphreys, John. Trade and Faith in Central Africa. London: Routledge, 1995.
Kabuya, Joseph. Histoire du Katanga. Kinshasa: Presses Universitaires du Congo, 1998.
Kabango, Moïse. History of the Luba People. Lubumbashi: Katanga Historical Society, 2011.
Lavern, Pierre. Les Sultans du Katanga. Paris: Harmattan, 1982.
Ngonga, Abdallah. Islam in Central Africa. Dar es Salaam: University of Tanzania Press, 2004.
Ngoy, Emmanuel. Geography of Central Africa. Kinshasa: Congo Academic Press, 2009.
UCT African Studies Journal. “Islam and Traditional Religions in Central Africa.” Vol. 12, no. 2 (2017): 130–150.

أ.د. فايد محمد سعيد

عضو المجلس الأوروبي للقيادات المسلمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى