المقالات

من المعلم إلى المجتمع… رحلة بناء إنسان 2030م

في كل صباح دراسي حين يفتح المعلم باب فصله، يدخل إليه جيل جديد يحمل في ملامحه ملامح المستقبل، وفي عينيه أسئلة أكبر من حجم المنهج، وفي قلبه طموحات أوسع من جدران المدرسة. هذا الجيل هو رهان المملكة في رؤيتها 2030م، والرؤية لن تتحقق بالأمنيات أو بالشعارات، وإنما ببناء الإنسان الذي يمتلك المعرفة والمهارة والقيم في آن واحد. وهنا يصبح الصف المدرسي ليس مجرد مكان للتعليم، بل منصة لتشكيل شخصية وطنية قادرة على المنافسة عالميًا والمساهمة في نهضة وطنها.
إن بناء إنسان 2030م يبدأ من إعادة تعريف وظيفة التعليم؛ فليست مهمته حشو العقول بالمعلومات، وإنما تمكين الطلاب من أدوات التفكير، وتحفيزهم على الإبداع، وربطهم بواقع الحياة. فالطالب الذي يحفظ التعريفات دون أن يعرف كيف يوظفها، أو يكرر الحلول دون أن يبتكر، سيجد نفسه غريبًا في سوق العمل المستقبلي، مهما كانت درجاته عالية. ولهذا يجب أن تتحول المناهج من صفحات تُنهى إلى مسارات تُكتشف، ومن خطط ثابتة إلى بيئات تعلم مرنة تستجيب لميول المتعلمين واختلافاتهم.
ويتطلب هذا التحول أن يصبح المعلم والمعلمة محور العملية التحفيزية داخل الصف. فالمعلم اليوم لم يعد مجرد ناقل للمحتوى، بل موجه وملهم، يعرف أن الطالب يتعلم أكثر حين يشعر بأن ما يتلقاه له قيمة في حياته. وهنا يأتي دور الأنشطة الصفية والمشاريع التطبيقية التي تربط المعرفة بالواقع، وتجعل الطالب يكتشف نفسه أثناء التعلم. وعندما يرى الطالب ثمرة جهده تتحول إلى منتج أو فكرة قابلة للتطبيق، فإنه لا ينسى الدرس، وإنما يرسخه في عقله وسلوكه.
كما أن بناء إنسان 2030م لا يكتمل دون تفعيل دور الأسرة كمكوّن أساسي في رحلة التعلم. فالمنزل هو الامتداد الطبيعي للمدرسة والدعم الأسري يعزز ما تبنيه البيئة الصفية. وفي عصر البيئة الرقمية لم يعد الإشراف الأسري خيارًا، بل ضرورة، لكن ليس بأسلوب رقابي جامد وإنما بشراكة واعية تُتيح للطالب مساحة التجربة مع وجود التوجيه والحوار.
ومن قلب الميدان التعليمي يدرك المعلمون أن هناك فجوة تعليمية لدى بعض الطلاب بين ما يُفترض أن يعرفوه وما يستطيعون أداؤه. ردم هذه الفجوة لا يتم بزيادة الجرعات المعرفية فقط، وإنما بالتشخيص المبكر، ووضع خطط تعلم فردية، وربط الدروس بأنشطة تعزز المهارة لا الحفظ. وحين يكون هدفنا الإتقان قبل الانتقال فإننا نمنح الطالب قاعدة صلبة ينطلق منها نحو التعلم المستمر.
ولأن الرؤية الطموحة للمملكة تتطلب أجيالًا تمتلك مرونة التعلم، فيجب أن يكتسب الطالب مهارات القرن الحادي والعشرين: التفكير النقدي، حل المشكلات، العمل الجماعي، والقدرة على التعلم الذاتي. هذه المهارات لا تُكتسب من الاختبارات وحدها، بل من بيئات تعلم تتيح التجريب، وتقبل الخطأ، وتحفز على المحاولة.
إن الصف إذا أُحسن توجيهه يمكن أن يكون مصنعًا للقيادات والمبدعين، والمعلم إذا أُعطي المساحة والأدوات يمكن أن يكون صانع الأثر الأكبر في حياة الطالب. وحين ننجح في تحويل المدرسة من محطة عبور إلى ورشة بناء مستمرة؛ فإننا لا نُخرج طلابًا فقط بل نطلق مواطنين قادرين على أن يكونوا جزءًا من قصة نجاح وطنهم.
بناء إنسان 2030م من داخل الصف ليس مشروعًا مؤقتًا بل مسارًا مستمرًا يبدأ بخطوة صغيرة في حصة اليوم، ويتراكم عبر سنوات الدراسة ليصنع الفرق في الغد. وحين ندرك أن كل طالب يجلس أمامنا هو مشروع وطني فإننا سنعلم أن مستقبل المملكة يبدأ من الصف… وينطلق إلى آفاق العالم.

• معلم وباحث دكتوراه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى