المقالات

دولة الموحدين: وحدة المغرب الكبير وارتباطه بإفريقيا جنوب الصحراء

«سلسلة: الممالك الإسلامية في أفريقيا: الإنسان، المعرفة، والتاريخ المنسي»

تمهيد

حين نتأمل الخريطة التاريخية للممالك الإسلامية في إفريقيا، ندرك أن القارة لم تكن مجرد فضاء جغرافي بعيد عن قلب العالم الإسلامي، بل كانت ركنًا أصيلًا في تشكيل الحضارة الإسلامية. فمن الأندلس غربًا إلى تمبكتو وغاو جنوبًا، مرورًا بالقاهرة والفاشر وطرابلس، تتبدّى ممالك إسلامية قامت على العلم والتجارة والدعوة، ونسجت صلات روحية وثقافية وحضارية بين شمال القارة وجنوبها. وفي هذه السلسلة الأسبوعية الموسومة بـ “الممالك الإسلامية في أفريقيا: الإنسان، المعرفة، والتاريخ المنسي”، نسلط الضوء على نماذج تاريخية شكّلت ملامح الذاكرة الإسلامية الأفريقية، ومنها دولة الموحدين التي برزت في القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي، كقوة وحدت المغرب الكبير، وربطت سواحل المتوسط بعمق الصحراء الكبرى وطرق القوافل نحو إفريقيا جنوب الصحراء.

مقدمة عامة عن دولة الموحدين

دولة الموحدين (524-668هـ/1130-1269م) تعد واحدة من أعظم الكيانات السياسية في تاريخ المغرب الكبير. أسسها محمد بن تومرت (ت 524هـ) على أساس ديني إصلاحي يدعو إلى تجديد الدين ومحاربة البدع والانحرافات، ثم حوّلها تلميذه عبد المؤمن بن علي الكومي (ت 558هـ) إلى دولة قوية جمعت بين الإصلاح الديني، والنهضة العمرانية، والازدهار الاقتصادي، والانفتاح الثقافي. امتد سلطانها من جبال الأطلس إلى الأندلس، ومن السواحل الأطلسية إلى عمق الصحراء الكبرى، مما جعلها دولة جامعة بين الشمال والجنوب، بين البحر والصحراء.

الأسباب التي أدت إلى تأسيس الدولة

ضعف دولة المرابطين في أواخر عهدها، نتيجة الانقسامات الداخلية، والتشدد الفقهي الذي ضيّق على الناس، وهزائمها أمام الممالك المسيحية في الأندلس.
الحاجة إلى إصلاح ديني، إذ ظهر ابن تومرت داعيًا إلى التوحيد الخالص، وإلى تصحيح العقيدة وتنقية الممارسات الدينية من الانحراف.
العامل القبلي والاجتماعي، فقد استندت الدعوة الموحدية إلى دعم قبائل مصمودة البربرية في جبال الأطلس.
البعد الجغرافي – التجاري، حيث كانت المنطقة ملتقى طرق القوافل بين المغرب والأندلس من جهة، وإفريقيا جنوب الصحراء من جهة أخرى.

المؤسسون وقادة الدولة

ابن تومرت (ت 524هـ/1130م): الإمام المهدي كما لقبه أتباعه، وضع الأساس الفكري والديني للدعوة الموحدية.
عبد المؤمن بن علي (ت 558هـ/1163م): القائد المؤسس الفعلي للدولة، الذي بسط سلطانه على المغرب والأندلس، ووضع التنظيم الإداري والعسكري.
أبو يعقوب يوسف (ت 580هـ/1184م): واصل التوسع في الأندلس وبنى مراكش كحاضرة علمية.
أبو يوسف يعقوب المنصور (ت 595هـ/1199م): بلغت الدولة في عهده أوج قوتها، وانتصر على الإسبان في معركة الأرك (1195م).
محمد الناصر (ت 610هـ/1213م): حاول مواصلة مشروع جده، لكنه هُزم في معركة العقاب (1212م) التي شكلت بداية الانحدار.

الرقعة الجغرافية

امتدت الدولة الموحدية عبر:

المغرب الأقصى، الأوسط، والأدنى (المغرب، الجزائر، تونس اليوم).
الأندلس (جنوب إسبانيا والبرتغال).
عمق الصحراء الكبرى حتى تمبكتو وطرق النيجر، حيث تأثرت الممالك الإسلامية جنوب الصحراء مثل مالي وغانا لاحقًا بالدعوة الموحدية ونظمها الإدارية.

أهم إنجازات الدولة

الوحدة السياسية: جمعت المغرب الكبير تحت راية واحدة، وربطت شماله بجنوبه.
النصر العسكري: الانتصار في معركة الأرك بقيادة يعقوب المنصور.
النهضة العمرانية: بناء الكتبية في مراكش، وحسان في الرباط، والخيرالدة في إشبيلية.
الازدهار العلمي: دعم العلماء والفلاسفة مثل ابن طفيل، وابن رشد، وابن زهر.
النشاط التجاري: تنظيم الطرق التجارية مع إفريقيا جنوب الصحراء، خصوصًا تجارة الذهب والملح.

أسباب الزوال

الهزيمة في معركة العقاب (1212م) أمام التحالف المسيحي في الأندلس.
الصراعات الداخلية بين ورثة العرش وضعف السلطة المركزية.
الانقسامات القبلية في المغرب الكبير.
ظهور قوى منافسة مثل المرينيين في المغرب، والحفصيين في تونس.

وانتهت الدولة رسميًا سنة 668هـ/1269م بسقوط مراكش في يد المرينيين.

الأثر الباقي من الدولة

العمارة الموحدية لا تزال شامخة: الكتبية، الخيرالدة، حسان.
الفكر الفلسفي الذي مثله ابن رشد شكل جسرًا للنهضة الأوروبية.
ترسيخ مفهوم الوحدة السياسية للمغرب الكبير.
تعزيز الروابط بين شمال إفريقيا وعمق الصحراء عبر التجارة والطرق العلمية.

ماذا تمثل دولة الموحدين للمسلمين والأفارقة؟

تمثل نموذجًا للوحدة السياسية والفكرية، وإسهامًا في دمج إفريقيا ضمن الحضارة الإسلامية. كما أن ارتباطها بإفريقيا جنوب الصحراء جعلها أحد الجسور الحضارية بين المغرب العربي والعمق الإفريقي، مما أسس لاحقًا لقيام دول إسلامية قوية في منطقة الساحل.

آراء المؤرخين الأفارقة

يرى المؤرخون الأفارقة أن دولة الموحّدين كانت مشروعَ توحيدٍ سياسي–اقتصادي قام على وصلِ المغرب الكبير بعمقِ الصحراء و«سودان» الغرب الإفريقي عبر التجارة والمعرفة. ففي التاريخ العام لإفريقيا (اليونسكو، ج4) جاء: *«بنى الموحّدون قوّتهم على عاملين اقتصاديين أساسيين: حركة التجارة عبر طرق الصحراء وخطوط خروج ذهب السودان شمالًا، ودمج نقاط النمو الاقتصادي الرئيسة»*¹. ويضيف: *«مثّلت دولة الموحّدين الذروة في مساعي توحيد المغرب والغرب الإسلامي كله، متجاوزةً ما أنجزه المرابطون»*².

كما يؤكد المؤرخ الليبي جميل أبو النصر: *«إن العقيدة الدينية التي شرعن بها الحكام سلطتهم، كانت مرتبطة بالجماعات القبلية التي ساندتهم قبل وصولهم إلى الحكم»*³. هذا التحليل يُظهر أنّ شرعية الموحّدين تأسست على تداخل الإصلاح الديني مع البنى الاجتماعية.

وبحسب اليونسكو أيضًا، فقد ساهمت الدولة الموحّدية في بروز المراكز العلمية في الصحراء الغربية مثل تمبكتو، وأسهمت في تمهيد الطريق لقيام إمبراطورية مالي الإسلامية⁴.

آراء المستشرقين

البعد العقلي والفكري: يرى موشيه فلتشر أنّ ابن تومرت أعطى *«دورًا محوريًا للعقل في صياغة العقيدة، إلى جانب النصوص الشرعية»*⁵، وهو ما جعل التوحيد برنامجًا معرفيًا وسياسيًا.
الشرعية عبر الجهاد: تذكر أميرة بنّيسون أن *«الانخراط في الجهاد كان شرطًا لاكتساب المشروعية السياسية والدينية»*⁶، وهو ما يفسر تركيز الموحّدين على الأندلس.
السياسات تجاه الأقليات: تقول ماريبيل فييرو: *«إن التحويلات القسرية لليهود والمسيحيين من أبرز السياسات المربكة في بدايات الدولة»*⁷.
المشهد المتوسطي: يرى عمّار بادج أن *«التنافس بين الموحّدين وبني غانية والأيوبيين لم يكن محليًا، بل جزءًا من مسرح متوسطي أوسع»*⁸.
المدرسة الكلاسيكية: ركّز ليفي بروفنسال وتيراس على النصوص والتحقيق، واعتبرا الموحّدين «تجربة مثالية» فشلت بسبب الصرامة العقائدية، لكنها تركت أثرًا عمرانيًا وفكريًا عميقًا⁹.

مقارنة

يتضح أنّ المؤرخين الأفارقة ركّزوا على البعد القاري والتجاري ودور الموحّدين في وصل المغرب بالسودان الغربي، بينما ركّز المستشرقون على البعد الفكري والسياسي، مع إبراز التوتر بين الإصلاح الديني والسلطة. وبالجمع بين الرؤيتين، نستطيع أن نقرأ الدولة الموحّدية باعتبارها مشروعًا ذا جناحين: إصلاحٍ ديني وعقلاني من جهة، وبناءٍ اقتصادي وتجاري–إفريقي من جهة أخرى.

الدروس والعبر

أهمية الوحدة السياسية في مواجهة التحديات الخارجية.
خطورة الخلافات الداخلية على استقرار الدول.
دور العلم والعلماء في بناء الحضارة.
أهمية الربط بين الشمال والجنوب في تكامل القارة الإسلامية.

خاتمة

لم تكن دولة الموحّدين مجرد كيان سياسي عابر، بل كانت مشروعًا حضاريًا جسّد معاني التوحيد الديني والسياسي، وربط المغرب الكبير بعمقه الإفريقي. ورغم أفولها في القرن السابع الهجري، فإن أثرها لا يزال حيًا في العمارة والفكر والذاكرة التاريخية للأمة.

المراجع (شيكاغو)

UNESCO, General History of Africa, Vol. IV: Africa from the Twelfth to the Sixteenth Century (Paris: UNESCO, 1984), 27.
Ibid., 30.
Jamil Abun-Nasr, A History of the Maghrib in the Islamic Period (Cambridge: Cambridge University Press, 1987), 105.
UNESCO, General History of Africa, Vol. IV, 43.
Moshe Fletcher, “The Almohad Tawḥīd: Theology Which Relies on Logic,” Studia Islamica 73 (1991): 51.
Amira K. Bennison, Jihad and Its Interpretation in Pre-Colonial Morocco (London: Routledge, 2002), 22.
Maribel Fierro, “Religious Minorities under the Almohads: An Introduction,” Journal of Medieval Iberian Studies 2, no. 2 (2010): 155.
Amar S. Baadj, Saladin, the Almohads and the Banū Ghāniya: The Contest for North Africa (12th–13th Centuries) (Leiden: Brill, 2017), 3.
Évariste Lévi-Provençal, Documents inédits d’histoire almohade (Paris: Maisonneuve, 1928), 14; Henri Terrasse, Histoire du Maroc (Casablanca: Société Marocaine d’Edition, 1949), 212.

أ.د. فايد محمد سعيد

عضو المجلس الأوروبي للقيادات المسلمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى