المقالات

يوميات لندن (9): المتحف البريطاني… التاريخ يهمس في صمت

في قلب العاصمة، وعلى مرمى حجر من صخب “هولبورن”، ينتصب المتحف البريطاني كصرح لا يشبه سواه. هنا، لا يُروى التاريخ بالأقلام فقط، بل يُعرض أمامك مشيًا وتمهّلًا ودهشة.

دخلت المتحف ذات مساءٍ خريفي، وما إن تخطيت قاعته الكبرى ذات القبة الزجاجية حتى شعرت كأنِّي أعبر الزمن لا المكان. كانت الجدران تحيطني، لكنّي كنت أسمع همسات من ألف حضارة، وأرى وجوهًا خرجت من الطين والبردي والذهب لتُحدّثني دون صوت.

وقفت طويلاً أمام قسم “الشرق الأدنى”، حيث النقوش البابلية، والتماثيل الآشورية، وقطع من مدينة نينوى التي قرأنا عنها في التاريخ. هنا الشرق، وقد أُخرج من تربته، ووضِع في زجاج بارد أنيق، فلا هو عاد للتراب، ولا بقي في القلب.

ثم مررت على أروقة الفن الإسلامي: مخطوطات عربية مذهّبة، تحف خزفية من إيران والأندلس، مصاحف من بغداد، وقطع هندسية أندلسية تخطف البصر. تأملت ما كُتب بخط اليد: “وقف لله تعالى”، وتساءلت في صمت: لمن هو الآن؟

وفي كل ركن، كانت تراودني أسئلة مؤرقة:
من الذي أتى بهذه الكنوز؟
هل خرجت من بلادها بعقود واتفاقات، أم عبرَ طرق الغلبة والإمبراطورية؟
هل يمكن للفن أن يُفصل عن الأخلاق، وللجمال أن يُحايد التاريخ؟

ورغم هذا الجدل، لا يمكن أن تُنكر أثر هذا المتحف في توسيع أفق الإنسان العادي نحو العالم. آلاف الزوّار يوميًا، من مختلف الأعمار والثقافات، يدخلون ويخرجون محمّلين بومضات من حضارات لم يكونوا ليعرفوها لولا هذا المكان.

إنه متحف، نعم، لكنه أيضًا مرآة حضارية ضخمة، فيها يرى الزائر صورة الإنسان:
ذلك الكائن الذي يبحث عن المعنى، ويصنع، ويهدم، ثم يُعيد البناء من جديد.

وفي طريق الخروج، تأملت لوحة كتب عليها: “نحن لا نحتفظ بالماضي، بل نُعيد التفكير فيه”.
قلت في نفسي:
ولعل من واجبنا نحن – كمسلمين – أن نُعيد التفكير في ماضينا، لا بنزعة بكائية، ولا بعين الرضا، بل بعقل يقظ وروح مسؤولة، تعي أن حضارتنا ليست مجرد تحف في المتاحف، بل رسالة للإنسانية كلها.

المتحف البريطاني لا يمنحنا إجابات، لكنه يفرض علينا أسئلة… والأسئلة بداية كل معرفة.

أ.د. فايد محمد سعيد

عضو المجلس الأوروبي للقيادات المسلمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى