نعيش اليوم عصرا يشهد تحولاً جذرياً في الوصول إلى العلم والمعرفة، حيث أحدثت الثورة الرقمية نقلة نوعية يسرت وسهلت الوصول إلى الكتب والمكتبات الرقمية. هذا التحول أدى إلى هجرة طبيعية من المكتبات الورقية إلى المكتبات والكتب الرقمية، مما ألقى بظلاله على مستقبل المكتبات الورقية.
وفي ظل هذا التطور الرقمي، تواجه العديد من المكتبات الشخصية والتجارية خطر الزوال والاندثار لأسباب متعددة منها ما يكون بسبب خسارة ملاكها، أو وفاة أصحابها، أو إهمال الورثة، أو بسبب عوامل مختلفة، أبرزها العوامل المادية التي تؤثر على الورق نفسه كالتدهور الناتج عن سوء الظروف البيئية أو ضعف جودة الورق، والتلف الفيزيائي نتيجة سوء التعامل أو ظروف التخزين.
وهذا الواقع يهدد بضياع وزوال كنوز معرفية لا تُقدر بثمن، من كتب نادرة، ومخطوطات قيمة، ووثائق تاريخية، تمثل جزءاً لا يتجزأ من هويتنا الثقافية والمعرفية.
ولذلك، أصبح علينا من الضروري التفكير في حلول عملية ومستدامة للحفاظ على هذا الإرث الثقافي العظيم في ظل الرؤية الوطنية.
وبناءً على ذلك فإنني اقترح دراسة اعداد وتنفذ مشروع وطني رائد يعمل على إنقاذ المكتبات المهددة بالزوال، من خلال جمعها وتصنيفها، وإعادة إحيائها في مكتبات عامة حديثة. ليس الهدف مجرد حماية الكتب، بل هو تكريم لجهود الرواد الذين أفنوا حياتهم في كتبتها وجمعها، وتحويل هذا الإرث من ذكرى قابلة للاندثار إلى “علم يُنتفع به” لأجيال قادمة.
وتأتي أهمية هذا المشروع للاسباب التالية:
1- حفظ الإرث الثقافي والمعرفي فالعديد من هذه المكتبات تضم كتبًا نادرة، مخطوطات قديمة، ووثائق تاريخية لا تقدر بثمن، قد تضيع إلى الأبد إذا لم يتم التفكير في كيفية الحفاظ عليها.
2- تكريم جهود الرواد حيث يُعد المشروع تكريما للمؤلفين ولأصحاب هذه المكتبات الذين بذلوا جهودًا كبيرة في تأليفها وجمعها ورعايتها، وهو ما يضمن استمرارية “العلم الذي يُنتفع به” لهم بعد وفاتهم.
3- إثراء المكتبات العامة حيث ستصبح هذه الكتب إضافة نوعية لمحتوى المكتبات العامة، مما يجعلها أكثر ثراء وتنوعا، وتلبي احتياجات الباحثين والطلاب.
4- تعزيز الوعي بالقراءة حيث ان إعادة إحياء هذه المكتبات بشكل جديد ومبتكر يمكن أن يعزز من مكانة الكتاب الورقي والقراءة بشكل عام في عصرنا الرقمي.
آلية التنفيذ المقترحة
المرحلة الأولى: المسح والتوثيق
1- إنشاء قاعدة بيانات إلكترونية لحصر وتوثيق المكتبات المهددة بالزوال في جميع مناطق المملكة.
2- تكليف فرق متخصصة من الجامعات أو الجمعيات الثقافية بمسح المناطق المختلفة وتوثيق المكتبات المهملة، سواء كانت شخصية أو تجارية.
3- التواصل مع ورثة أصحاب المكتبات المتوفين، أو مع مالكي المكتبات التجارية، لتوضيح أهمية المشروع والحصول على موافقتهم لنقل الكتب.
المرحلة الثانية: التجميع والصيانة
1- تجهيز مستودعات مؤقتة مركزية في كل منطقة لاستقبال الكتب التي يتم جمعها.
2- فرز الكتب وتصنيفها، وترميم الكتب القديمة أو المتضررة لضمان بقائها.
3- الاستعانة بتقنيات التصوير الرقمي لتحويل الكتب المهمة والنادرة إلى صيغة رقمية، لضمان حفظها وتيسير الوصول إليها.
المرحلة الثالثة: إعادة الإحياء
1- تخصيص مساحات داخل المكتبات العامة في كل منطقة، أو إنشاء مكتبات عامة جديدة، تحتوي على قاعات أو أركان خاصة تحمل أسماء أصحاب المكتبات أوالمتوفين.
2- عرض الكتب المجمعة في تلك الأركان مع لوحات تعريفية بأصحابها، مما يمنحها قيمة رمزية ومعنوية كبيرة.
3- تنيظم فعاليات ثقافية دورية مثل ندوات، ورش عمل، أو معارض للكتب المجمعة، للتعريف بالمكتبات الجديدة وأهميتها.
جهات الدعم والتمويل
1- الجامعات السعودية حيث يمكن أن تتبنى الجامعات هذا المشروع كجزء من مسؤوليتها المجتمعية، من خلال توفير الخبرات البحثية والفرق التطوعية.
2- البنوك السعودية والمستثمرون ورجال الأعمال حيث يُمكن عرض المشروع كعمل للمسؤولية التشاركية المجتمعية وكعمل خيري وصدقة جارية، حيث تتولى البنوك او يتولى أحد المستثمرين أو رجال الأعمال تمويل إنشاء قاعة أو جناح كامل يحمل اسمه أو اسم عائلته، ليكون ذلك عملا نافعا يخلد ذكرى ملاكها او اصحابها.
3- الجهات الحكومية حيث يمكن لوزارة الثقافة ، أو المؤسسات غير الربحية ذات الصلة أن تقدم الدعم اللوجستي والمادي اللازم.
ختاماً إن مشروع حماية المكتبات من الزوال والاندثار وما فيها من كنوز وارث علمي وثقافي وتاريخي ليس مجرد مبادرة للحفاظ على كتب، بل هو استثمار في المستقبل، وتأكيد على أن قيمة المعرفة لا تزول، وأنّ تراثنا التاريخي والثقافي يستحق كل جهد للحفاظ عليه.






