سلسلة: الممالك الإسلامية في أفريقيا: الإنسان، المعرفة، والتاريخ المنسي
تمهيد
يُعدّ شرق السودان والساحل الغربي للبحر الأحمر أحد أهم الممرات الحضارية في التاريخ الإفريقي والإسلامي. فمنذ عصور الفراعنة مرورًا بالممالك النوبية وصولًا إلى الإسلام، شكّلت هذه المنطقة نقطة التقاءٍ للتجارة، والدعوة الدينية، وحركة الحجاج القادمين من إفريقيا إلى الجزيرة العربية. وفي قلب هذا الإقليم عاش شعب البجا، ذلك الشعب العريق الذي امتد وجوده بين أسوان شمالًا ومصوع وأسمرا جنوبًا، وسيطر على السهول والجبال والموانئ البحرية.
وقد عرفت المصادر العربية والإسلامية في القرون الوسطى وجود خمس ممالك رئيسية للبجا، عُرفت بـ ممالك البجا الخمسة. ورغم أن كل مملكة كانت مستقلة سياسيًا، إلا أن وحدة الانتماء العرقي والثقافي جمعت بينها. وقد وصفهم المسعودي في مروج الذهب:
«البجة أمم شتى، لهم ملوك كثيرون، وأحوالهم مختلفة، ومساكنهم على سواحل البحر وصحاريه، ولهم مناجم الذهب والزمرد» (المسعودي، مروج الذهب، ج2، ص21). كما نقل ابن سليم الأسواني وصفًا دقيقًا لطبيعة سلطانهم على المناجم والتجارة:«وأما معادن الذهب والزمرد فهي بأرض البجة، وهم قوم يملكونها ويتسلطون عليها، ولا يدخلها أحد إلا بإذنهم، وكانت قوافل النوبة ومصر تمر بأرضهم، فلا يتركونها إلا بعُشر ما فيها» (ابن سليم الأسواني، أخبار النوبة والمقرة والبجة والنيل، ص45).
مقدمة: البجا بين التاريخ والأدب
لم يكن البجا مجهولين في الذاكرة العربية والإسلامية، بل حضروا في كتب الرحلات والشعر. فقد وصفهم ابن بطوطة عند مروره بأرضهم في طريقه من عيذاب إلى جدة بقوله: «قوم من السودان، أهل خشونة وبداوة، أكثرهم على دين النصرانية، ولهم جمال كثيرة، ولا زرع عندهم ولا ضرع، وإنما معاشهم من ألبان الإبل ولحومها» (ابن بطوطة، تحفة النظار، 1:119).
أما المتنبي فقد أشار إليهم في مدائحه لكافور الإخشيدي، فقال:
«أبا المسك، هل في سيفك اليوم مَفعلٌ من البُجَا، أو من سيوف الهنودِ؟» (ديوان المتنبي، 2:345).
وفي موضع آخر شبّه هجومهم العنيف بيد العازف على العود:
«تَهُزّ اهتِزَامَ البُجَا الكُماةَ، كما هَزّتْ يَدُ المِثْقَبِ العُودَ الغَنَاءَ الرّنُومِ» (ديوان المتنبي، 3:77).
كما سجّل المؤرخون أخبارهم في المصادر الأيوبية والمملوكية؛ فالمقريزي يذكر أنهم «أهل بادية يغيرون على أطراف الصعيد» (الخطط، 2:312)، وعدّهم ابن خلدون من أمم السودان «ما بين صعيد مصر وأرض الحبشة» (العبر، 6:125). بل إن الشعر المملوكي تفاخر بانتصارات السلاطين عليهم.
إن حضور البجا في النصوص الأدبية والتاريخية يكشف أنهم لم يكونوا مجرد جماعة محلية، بل قوة إقليمية ذات أثر في التجارة والحرب والثقافة، معروفة لدى العرب والمسلمين.
أولًا: الممالك الخمس ومواقعها وإنجازاتها
1. مملكة بقلين (Baqlīn)
• الموقع: شمال شرق السودان قرب أسوان.
• الإنجازات:
o السيطرة على الطرق التجارية بين مصر والنوبة.
o تصدير الذهب والزمرد لمصر الإسلامية.
o لعبت دور الحاجز الجغرافي والسياسي بين وادي النيل ومناطق البجا.
•
• القادة: من أبرزهم الملك علي بابا، الذي سيطر على الطرق والمعادن، وكانت له صلات مباشرة مع الفاطميين.
يقول ابن حوقل عن هذا الشريط الحدودي:
“ولهم شدّة في البأس، يقطعون الطرق إلا على من صالحهم.”
(صورة الأرض، ص118).
2. مملكة بازين (Bazīn)
• الموقع: جنوب بقلين، على تماس مع النوبة المسيحية.
• الإنجازات:
o ازدهار التبادل التجاري والزراعي.
o استقبال التأثيرات المسيحية النوبية قبل أن يتوغل الإسلام لاحقًا.
o ساهمت في حماية القوافل العابرة من وادي النيل إلى البحر الأحمر.
• القادة: من أبرزهم الملك كنون (Kanun)، الذي تحالف مع النوبة لحماية مملكته من النفوذ المصري.
3. مملكة جارين (Jārīn)
• الموقع: إلى الجنوب من بازين، في مناطق صحراوية رعوية.
• الإنجازات:
o قوة عسكرية اعتمدت على الإبل والفرسان.
o إشراف على طرق القوافل العابرة من العمق الإفريقي إلى البحر الأحمر.
o ربط القبائل الرعوية بالدول الزراعية.
• القادة: برز الملك بلي (Bali)، الذي اشتهر بشجاعته وبغاراته على النوبة والقوافل.
4. مملكة قطعة (Qatʿa)
• الموقع: قرب ميناء سواكن وبورتسودان الحالية.
o الإنجازات:
إشراف مباشر على الموانئ البحرية.
o صلات تجارية مع اليمن والحجاز والهند.
o ساعدت على إدخال العربية والإسلام إلى شرق السودان عبر التجار.
• القادة: عُرف الملك تروين (Tarwīn) بحكمته وحرصه على بناء علاقات مع التجار العرب، ما مهّد لانتشار الإسلام.
5. مملكة هَدَربا (Hadāriba)
• الموقع: المنطقة الممتدة من سواكن حتى ميناء عيذابالتاريخي.
o الإنجازات:
أكبر الممالك وأكثرها نفوذًا.
o السيطرة على طريق الحج الإفريقي عبر ميناء عيذاب.
o تحصيل الرسوم على التجارة العابرة بين إفريقيا والجزيرة العربية.
o المساهمة المباشرة في نشر الإسلام عبر التواصل مع الحجاز.
• القادة: برز الملك علي بن داؤود الهَدَربي، الذي سيطر على ميناء عيذاب ودخل في صدامات ثم مصالحات مع الفاطميين. يذكر المقريزي عنهم: “وعلى طريق عيذاب إلى الحجاز قوم من البجة يُقال لهم الهدارب، يقطعون الطريق ويأخذون المكوس على كل من مرّ.” (المواعظ والاعتبار، ج4، ص311).
ثانيًا: طبيعة العلاقة بين الممالك
• لم تكن هذه الممالك متعاقبة في التاريخ، بل كانت متزامنة (القرون الرابع–السادس الهجرية / العاشر–الثاني عشر الميلادية).
• لكل مملكة سلطانها المستقل، لكنها تشترك في الثقافة البجاوية واللغة والعادات.
• الصراعات والتحالفات كانت سمة دائمة، خصوصًا لحماية طرق التجارة أو مواجهة النفوذ الخارجي.
ثالثًا: الامتداد الجغرافي للبجا
• امتد نفوذهم من أسوان شمالًا حتى مصوع وأسمرا جنوبًا.
• سيطروا على الموانئ (عيذاب، سواكن، مصوع)، فكانوا حلقة وصل بين إفريقيا والجزيرة العربية.
• وصل تأثيرهم إلى تجراي الإثيوبية، ما يبرز التداخل بين السودان وإريتريا وإثيوبيا.
رابعًا: الدين والثقافة
• بدأت المعتقدات بدوية محلية، ثم تأثروا بالمسيحية من النوبة.
• مع القرن الرابع الهجري، انتشر الإسلام بينهم عبر التجار والدعاة.
• الموانئ البحرية جعلت العربية لغة مشتركة، فصارت وعاء الثقافة والدين.
خامسًا: الاقتصاد والتجارة
• الرعي: الإبل والماشية.
• المعادن: الذهب والزمرد.
• التجارة: الصمغ العربي، الجلود، العاج، العبيد.
• الحج: تحكموا في طريق عيذاب، وهو الطريق الرئيس للحجاج الأفارقة.
يذكر ابن سليم الأسواني: “وليس يُسمح لأحد أن يدخل بلادهم أو يتجر فيها إلا بمال يُؤخذ منه.”
(أخبار النوبة والمقرة والبجة والنيل، ص46).
سادسًا: آراء المؤرخين والمستشرقين
• المؤرخون المسلمون: وصفوهم كأمم متعددة ذات بأس شديد، تتحكم في الطرق والمعادن.
• المستشرقون الأوروبيون: رأوا أن هذه الممالك أقرب إلى “دول مدن-قبلية” قائمة على التجارة العابرة.
• المؤرخون الأفارقة: مثل يوسف فضل حسن، أبرزوا دور البجافي إدخال الإسلام والعربية إلى شرق السودان.
• مراكز الدراسات الحديثة: معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية (جامعة الخرطوم) تناول تاريخ البجا كمدخل لفهم الهوية السودانية والإريترية.
سابعًا: الدروس والعبر لأبناء البجا اليوم
• الوحدة قوة: تفرّق الممالك أضعفها، والتعاون اليوم ضرورة للبجا في السودان وإريتريا.
• استثمار الجغرافيا: موقعهم الاستراتيجي يؤهلهم أن يكونوا جسرًا اقتصاديًا بين إفريقيا والعالم العربي.
• الحفاظ على التراث: اللغة البجاوية والإرث الثقافي ثروة ينبغي صونها.
• التكامل الحضاري: كما كانوا في الماضي جسرًا للتجارة والحج، يمكن أن يكونوا اليوم جسرًا للتنمية والتعاون.
خاتمة
تمثل ممالك البجا الخمسة نموذجًا فريدًا في التاريخ الإسلامي الإفريقي، إذ جمعت بين الطابع القبلي والبعد التجاري العالمي. وبرغم اندماجها لاحقًا في سلطنة سنار، فإن أثرها لا يزال حيًا في ذاكرة البجا بين السودان وإريتريا.
إن قراءة تاريخ هذه الممالك لا تُسهم فقط في فهم الماضي، بل تمنح أبناء البجا اليوم دروسًا في الوحدة والتنمية والاعتزاز بالهوية والانفتاح على العالم.
المراجع (Chicago Style)
• ابن بطوطة. تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار. تحقيق محمد عبد المنعم العريان. القاهرة: دار الفكر، 1992.
• ابن حوقل. صورة الأرض. بيروت: دار صادر، 1967.
• ابن خلدون، عبد الرحمن. كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر. تحقيق خليل شحادة. بيروت: دار الفكر، 2000.
• ابن سليم الأسواني. أخبار النوبة والمقرة والبجة والنيل. تحقيق يوسف فضل حسن. الخرطوم: جامعة الخرطوم، 1974.
• المتنبي. ديوان المتنبي. تحقيق عبد الواحد وافي. بيروت: دار المعرفة، 1980.
• المسعودي، علي بن الحسين. مروج الذهب ومعادن الجوهر. بيروت: دار الأندلس، 1965.
• المقريزي، تقي الدين. المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998.
• النويري، شهاب الدين. نهاية الأرب في فنون الأدب. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2004.
• فضل حسن، يوسف. تاريخ السودان في العصور الوسطى. بيروت: دار النهضة العربية، 1973.
• Lobban, Richard. Historical Dictionary of Sudan. Lanham: Scarecrow Press, 2002.
• Spaulding, Jay. The Heroic Age in Sinnar. East Lansing: African Studies Center, Michigan State University, 1985.
• معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية. دراسات في تاريخ البجا. الخرطوم: جامعة الخرطوم، 1999.