«: الممالك الإسلامية في أفريقيا – الإنسان، المعرفة، والتاريخ المنسي»
مدخل منهجي
يقوم هذا البحث على قراءة تاريخية–تحليلية للممالك الإسلامية التي نشأت في الحبشة (إثيوبيا) منذ القرن الرابع الهجري وما تلاه، وذلك في ضوء المصادر العربية الكلاسيكية، والمراجع الغربية الحديثة، والبحوث الإثيوبية المعاصرة. وهو يوازن بين الرواية التاريخية والتحليل الحضاري، مبرزًا إسهامات تلك الممالك في مجالات الدين والمعرفة والسياسة والتجارة، ومبينًا كذلك التحديات التي واجهتها، والإرث الذي تركته في الذاكرة التاريخية للمنطقة. وقد التزمنا في التوثيق بمنهج شيكاغو (Chicago Style) وجمع الهوامش في نهاية المقال، لتيسير القراءة الأكاديمية.
التمهيد العام للسلسلة
تسعى هذه السلسلة إلى إحياء تاريخ الممالك الإسلامية في أفريقيا، تلك التي حملت لواء الدين والمعرفة وأسهمت في صناعة الذاكرة الإنسانية، لكنها أُهملت أو طُمست في السرديات الرسمية. ومن بين تلك الممالك، تحتل الحبشة (إثيوبيا) مكانة خاصة، فهي الأرض التي شهدت أول هجرة في الإسلام، وكانت منذ القدم ملتقى للديانات والحضارات، وموئلًا للتفاعل بين العرب والأفارقة.
السياق التاريخي للحبشة قبل الإسلام
كانت مملكة أكسوم المسيحية تمثل القوة العظمى في القرن الرابع الميلادي في منطقة القرن الأفريقي. وقد امتد نفوذها إلى اليمن أحيانًا، وسيطرت على الموانئ البحرية الكبرى. وكانت الحبشة، بحكم موقعها على البحر الأحمر، نقطة اتصال بين الجزيرة العربية وشرق أفريقيا، مما مهّد لانتشار الإسلام فيها منذ بداياته.
الهجرة الأولى إلى الحبشة ودلالاتها الحضارية
مثلت الهجرة الأولى إلى الحبشة في السنة الخامسة من البعثة النبوية حدثًا فارقًا، إذ لجأ الصحابة إلى ملك عادل هو النجاشي. وقد احتضنهم وأمّنهم، وقد كان عالمًا مسيحياً، حملته تعاليم المسيح الحقيقية على إنصاف المظلومين، وإيواء المهاجرين والاجئين، تلك اللحظة الأولى للتلاقي الإسلامي–الإفريقي. وتكشف هذه الحادثة عن بعد إنساني وحضاري، إذ قامت على مبدأ اللجوء والعدالة، وأرست جذور التواصل بين المسلمين وأرض الحبشة.
نشأة الممالك الإسلامية في الحبشة
ابتداءً من القرن العاشر الميلادي، ظهرت الممالك الإسلامية في الأقاليم الشرقية والجنوبية من إثيوبيا. من أبرزها:
سلطنة شوا: قامت في وسط الهضبة، وكانت بوابة الإسلام نحو الداخل الإثيوبي.
سلطنة أوفات: نشأت قرب الساحل الشرقي، وكان لها دور استراتيجي في التجارة البحرية.
سلطنة عدل: من أقوى الممالك الإسلامية، وعاصمتها زيلع، وقد لعبت دورًا سياسيًا بارزًا في مواجهة الحبشة.
سلطنة بالي: حكمت مناطق الجنوب، وأسهمت في نشر الإسلام بين قبائل تلك المناطق.
مدينة هرر: تحولت لاحقًا إلى حاضرة علمية وصوفية كبرى، حتى عُرفت بـ “مدينة الأولياء”.
سلطنة عدل ومقاومة الهيمنة الحبشية
برزت سلطنة عدل في القرن السادس عشر بقيادة الإمام أحمد بن إبراهيم الغازي، المعروف بـ”أحمد غُرَي”. وقد قاد حركة مقاومة كبرى ضد الدولة الحبشية، واستعان بالعثمانيين في سلاح النار، فيما لجأ الأحباش إلى الاستعانة بالبرتغاليين. وتمثل هذه المرحلة بداية التدخل الأجنبي في القرن الأفريقي، حيث تقاطعت المصالح الدينية والسياسية في ساحة واحدة.
هرر: حاضرة العلم والتصوف في الهضبة الشرقية
تعد مدينة هرر من أهم المراكز العلمية في تاريخ الإسلام في القرن الأفريقي. فقد كانت مأوى للعلماء والفقهاء والمتصوفة، واحتوت مئات المخطوطات العربية. وارتبطت هرر بشبكات علمية مع الحجاز واليمن والقاهرة، فكانت حلقة وصل بين العالم الإسلامي وشرق أفريقيا. كما لعبت دورًا بارزًا في نشر العربية كلغة دين وعلم.
إسهامات الممالك الإسلامية في المعرفة والعلوم
لقد كانت المدارس الشرعية والمساجد مراكز للتعليم ونشر الفقه والحديث، وأسهم العلماء في صياغة هوية إسلامية جامعة. كما انتقل عبر هذه الممالك الكثير من المؤلفات إلى الداخل الإفريقي. ويذكر الباحث الإثيوبي حسين أحمد أن الإسلام في إثيوبيا تطور في القرن التاسع عشر ليصبح عاملًا رئيسيًا في تشكيل الهوية الثقافية للمجتمعات المحلية.
الدور التجاري والاقتصادي للممالك الإسلامية
سيطرت هذه الممالك على طرق التجارة الحيوية، خصوصًا الموانئ مثل زيلع ومصوع وعصب. وكانت تجارة الذهب والعاج والبخور والعبيد تمر عبر أراضيها إلى الجزيرة العربية والهند. وأسهم ذلك في ازدهار اقتصادي، وفي ترسيخ مكانة هذه الممالك بوصفها وسيطًا حضاريًا بين إفريقيا والعالم الإسلامي.
أسباب الضعف والزوال
واجهت الممالك الإسلامية عدة تحديات:
الصراعات الداخلية بين الأسر الحاكمة.
الحروب المستمرة مع الممالك المسيحية.
التدخل الأوروبي (البرتغالي خصوصًا).
انتقال مراكز القوة إلى هرر ثم سقوطها تحت النفوذ الحبشي.
وقد أدى ذلك إلى تراجع الدور السياسي لهذه الممالك، وإن بقي أثرها الثقافي والديني حيًا.
الإرث الباقي في الذاكرة المعاصرة
اليوم يشكل المسلمون من اهم مكونات المجتمع الاثيوبي، ولا تزال مدينة هرر حاضرة إسلامية بارزة، أدرجتها اليونسكو ضمن التراث العالمي. وتبقى هذه الممالك شاهدًا على أن الإسلام كان جزءًا أصيلًا من تكوين الحبشة، وأسهم في صياغة هويتها المتعددة.
الخاتمة التحليلية
إن الممالك الإسلامية في الحبشة ليست مجرد وقائع تاريخية، بل هي صفحات من تفاعل الإنسان والمعرفة والدين في قلب إفريقيا. لقد شكلت تجربة سياسية ومعرفية مبكرة، جمعت بين الديناميكية المحلية والارتباط بالعالم الإسلامي الأوسع. وإذا كانت قد تراجعت بفعل عوامل داخلية وخارجية، فإن إرثها باقٍ في الهوية الإسلامية–الإفريقية وفي ذاكرة الشعوب. ومن هنا تأتي أهمية إعادة قراءتها، لا بوصفها تاريخًا منسيًا، بل كجزء من مشروع أوسع لفهم دور الإسلام في بناء القيم والمعرفة في إفريقيا.
توصيات للبحث المستقبلي
دراسة تفصيلية لكل مملكة على حدة (شوا، أوفات، عدل، بالي، هرر).
تحقيق المخطوطات العربية في هرر وإثيوبيا وربطها بسياقها الفكري.
تحليل دور الممالك الإسلامية في التجارة العالمية.
المقارنة مع الممالك الإسلامية في السودان واليمن.
الهوامش (Endnotes)
١. المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر.
٢. ابن خلدون، العبر وديوان المبتدأ والخبر.
٣. المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار.
٤. Trimingham, J. Spencer. Islam in Ethiopia. Oxford, 1952.
٥. Hussein Ahmed. Islam in Nineteenth-Century Wallo, Ethiopia. Leiden: Brill, 2001.
٦. Lewis, I.M. Islam in Tropical Africa. Indiana University Press, 1980.
٧. Hassen, Mohammed. The Oromo and the Christian Kingdom of Ethiopia, 1300–1700. London: James Currey, 1990.
قائمة المراجع (Bibliography)
ابن خلدون. العبر وديوان المبتدأ والخبر.
المسعودي. مروج الذهب ومعادن الجوهر.
المقريزي. المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار.
Hassen, Mohammed. The Oromo and the Christian Kingdom of Ethiopia, 1300–1700. London: James Currey, 1990.
Hussein Ahmed. Islam in Nineteenth-Century Wallo, Ethiopia. Leiden: Brill, 2001.
Lewis, I.M. Islam in Tropical Africa. Indiana University Press, 1980.
Trimingham, J. Spencer. Islam in Ethiopia. Oxford: Geoffrey Cumberlege, 1952.






