المقالات

الخرطوم.. لا نشكيها ولا نبكيها

كانت جدّتنا فاطمة بنت الخليفة تردّد هذه الكلمات في سبعينيات القرن الماضي، ومع وعورة الطرق وبُعد المسافة بين مكان سكنها بالقرية والخرطوم – قبل أن يتم رصف الطرق لاحقًا –؛ وقد كانت هناك أشياء تستدعي السفر، وأهمها العزاء، وهو ما تقصد بكلمة «نبكيها»، أي ما نمشي لـ «بكاء» – عزاء –. والبكاء لما يكون بما يُسمّى بـ«الحار» هو من أعزّ عزيز؛ فهي تقصد: (ما يجينا بكاء حار يضطرنا للسفر للخرطوم).

أما الثاني فهو طلب المحكمة، فهي تقصد «لا نشكيها»؛ أي ما نسافر للخرطوم في قضية شكوى، وبالدارجي نقول: شكيّة، أي ما نحتاج نمشي لمحكمة، وهو ما لا يمكن الاعتذار عنه؛ فعندما يأتي التكليف بالحضور من المحكمة، فما عليك إلا أن تَبلغ. ولذلك كان أهلنا لا يُحبّون الترحال والسفر الكثير، بل كان الواحد إذا جاءه ما يضطره للسفر، يُخبر أهل القرية كلهم ويُوصيهم على البيت والأولاد، ويشرح لهم سبب السفر بالتفصيل. وعندما يعود من السفر يأتيه أهل القرية للاستماع له بكل اهتمام، فيُعطيهم تفاصيل التفاصيل.

ولعل تخوّف جدّتنا فاطمة يتماشى مع حديث رسول الله ﷺ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي ﷺ: «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ العَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُم طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ، فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ مِنْ وَجْهِهِ، فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ». وقد حثّ النبي ﷺ على عدم سفر الشخص وحده، وعلى عدم بقاء المرء وحده في المنزل إذا تيسّر له من يشاركه – ولا سيّما في السفر –، ولهذا قال ﷺ: «لو يعلم الناسُ ما في الوحدة ما سار راكبٌ بليلٍ، وقال: الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب». وهذا يدل على أنه ينبغي للمسافر ألا يكون وحده، وأقل الرفقة ثلاثة. لذلك كانوا يحرصون على العودة بأسرع ما يمكن، ولا بُد في السفر من طيب الكلام، وإطعام الطعام، وإظهار مكارم الأخلاق. فالسفر من أسباب الضجر، ومن أحسن خُلقه في الضجر فهو الحسن الخُلق. وتمام حسن خُلق المسافر بالإحسان إلى المكاري، ومعاونة الرفقة بكل ممكن، وإعانة المنقطع بمركوب أو زاد، وتمام ذلك مع الرفقاء بمزاح ومطايبة في بعض الأوقات، من غير فُحش ولا معصية.

سبحان الله، برغم الفارق بين المدينة والقرية، وما كانوا يجدونه من الماء البارد والكهرباء، إلا أن ذلك لم يكن مُغريًا لهم ولا دافعًا للبقاء بها. بل يُحكى من الطرائف أن أحد أهل القرى المجاورة ألحّت عليه زوجته بأن يشتري لهما قطعة أرض في الخرطوم، فقال لها – ساخرًا –: «يا ولية، انتظري قريب الخرطوم بتجي جمبنا». وهو يقصد أن الخرطوم في الفترة الأخيرة «تريّفت» وامتدت للأطراف.

تقبّل الله من جدّتنا فاطمة، وقد سافرت بعد ذلك للحج – وهو ما نتمناه جميعًا – تقبّل الله منها ذلك. ونحن من بعدها جئنا للخرطوم «بكيناها وشكيناها»، ودار الزمن فخرجنا عنها دون رغبتنا.

أسأل الله أن يتقبّل جدّتنا، ويرحم والدينا أجمعين، ويجمعنا بهم في أعالي الجنان مع سيّدنا محمد ﷺ، وأن لا يُحوجنا لأن «نشكي أو نبكي». ولسان حال الكثيرين مثل الجدة فاطمة: «أنا ما داير السفر، لكن حَكَم القدر». وكما قالها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «نفرّ من قدر الله، إلى قدر الله».

المطيع محمد أحمد السيد

المدير الأسبق للحج والعمرة-السودان،

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى