المقالات

الفاتح الصبّاغ و«رحلة تطوير جسر الجمرات»

درجت بعثة الحج السودانية على اصطحاب بعثة إعلامية تشمل الأجهزة الإعلامية المتنوعة، لعكس حركة الحجيج طوال رحلتهم وبث الطمأنينة في نفوس ذويهم، ومن أهمها الإذاعة السودانية، نظرًا لارتباط أهل القرى والأرياف بالراديو.

تطوف في ذاكرة التاريخ مشاهد الجمرات بحشدها البشري الهائل، وأصوات الحجاج المتدافعين الذين يخشون الزحام ولا يخشون في سبيل الله لومة لائم. وفي ذاكرتي — تقريبًا — في حج عام 1419هـ، حدثت لنا طرفة مع الإعلامي المعروف الفاتح الصبّاغ (رحمه الله)، الذي قدم مع بعثة الإذاعة، حيث كنا في خيمة الحجاج بمشعر منى بعد أن وقفنا بعرفة وبتنا بمزدلفة، وبدأ الحديث حول ما تبقّى من مناسك الحج.

تأمل الفاتح ذلك البحر البشري المتلاطم حول الجمرات، فتملكته رهبة التدافع، والتفت إلى أحد زملائه طالبًا منه أن يوكله ليرمي عنه جمرة العقبة، فاعتذر الزميل قائلًا: «معليش يا الفاتح، لقد أوكلتني خالتي بالفعل».
لم ييأس الفاتح، وبدافعٍ إعلامي بحت قال له مازحًا: «لا بأس يا أخي، اعتبرني خالتك الثانية».

تلك العبارة — التي سمعتها بنفسي — كانت محاولة يائسة للتغلب على عائقٍ حقيقي بكلمةٍ مرحة، لخصت المعاناة التي كان يعيشها الكثيرون من كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة والنساء والأطفال، بل وحتى الأصحاء أنفسهم.

وقد رمى النبي ﷺ جمرة العقبة الكبرى يوم النحر بسبع حصيات، وكان يُكبّر مع كل رمية، وفي أيام التشريق رمى الثلاث الجمرات: الصغرى، والوسطى، ثم العقبة، كل واحدة بسبع حصيات، وكان يرمي الحصيات واحدة تلو الأخرى بحجم حبة الفول، ويقول: «الله أكبر» مع كل حصاة.
وقد وقف للدعاء طويلًا بعد الجمرة الصغرى والوسطى، ولم يقف بعد جمرة العقبة، حيث كان يرمي بعد زوال الشمس، وأحيانًا راكبًا ليراه الناس ويقتدوا به.

لقد كانت مشكلة التدافع في منى — وخاصة على جسر الجمرات — هاجسًا يؤرق مضاجع القائمين على خدمة الحجاج، وتحديًا كبيرًا أمام حكومة خادم الحرمين الشريفين، التي جعلت خدمة ضيوف الرحمن شعارًا وهدفًا تسعى لتحقيقه بكل إمكاناتها.

وقد استشعرت القيادة الرشيدة في المملكة هذه المعاناة مبكرًا، فانطلقت في سلسلة من التوسعات والتطويرات الضخمة لجسر الجمرات والمنطقة المحيطة به، فحوّلت من خلالها منطقة الرمي من مكانٍ يشكّل خطرًا على الحجاج إلى نموذجٍ عالمي في تنظيم تدفّق الحشود وإدارة الأزمات.

ومن أبرز هذه المنجزات التصميم الهندسي المتطور، حيث لم يعد الجسر مجرد ممرٍّ إسمنتي، بل تحوّل إلى تحفة هندسية من خمسة طوابق بطول 950 مترًا، تسمح بتدفّق الحجاج في اتجاهات متعددة ومتقاطعة دون تداخل، مما يسهل عملية الدخول والخروج بشكلٍ منظمٍ وآمن.

إضافة إلى نظام التبريد والتظليل في مواجهة حرارة الشمس الحارقة (محطات للتبريد)، ونظامٍ متطور للتظليل في جميع أنحاء الجسر والساحات المحيطة، إلى جانب التوسعة الهائلة للساحات حول الجمرات لاستيعاب الملايين من الحجاج في وقتٍ واحد، مما يقلل من كثافة الحشود ويلغي ظاهرة التدافع من جذورها.

كما تم تطوير نظام حديث للرمي يتيح للحاج رمي الجمرات في أي وقتٍ يناسبه طوال أيام التشريق، من خلال تقسيم الحجاج إلى مجموعاتٍ وتوجيههم عبر مساراتٍ محددة.

وتم دعم الجسر بشبكةٍ متطورة من الأنفاق والجسور والسلالم المتحركة والمصاعد، إلى جانب استخدام أحدث تقنيات المراقبة والاتصالات وإدارة الحشود عبر غرفة تحكم متطورة بإدارة قياداتٍ مدنيةٍ وعسكريةٍ عليا، لضمان أعلى مستويات السلامة للحجيج.

اليوم، وبعد سبعةٍ وعشرين عامًا، لو كان الفاتح الصبّاغ حيًّا، وعاد هو ورفاقه إلى جسر الجمرات بمنى، لرأى مشهدًا مختلفًا تمامًا؛ لرأى حجاجًا يؤدّون المناسك في يسرٍ وسكينة، وآخرين يجلسون في راحةٍ في الساحات المظللة، وآلاتٍ تبرد الأجواء بدلًا من حرارة الشمس والزحام.

لقد تحولت «طرفة الخالة الثانية» من تعبيرٍ عن أزمة، إلى ذكرى من الماضي تُروى للدلالة على حجم الإنجاز الذي تحقق.

إن ما تشهده منى اليوم هو ثمرة رؤيةٍ ثاقبةٍ وتخطيطٍ دقيقٍ من المملكة العربية السعودية، تؤكد مجددًا على حرصها الدائم على توفير كل ما يضمن لضيوف الرحمن أداء مناسكهم في أمنٍ وأمانٍ وطمأنينة.

فالتحية للمملكة على هذا العطاء المستمر، إذ إن رمي الجمرات في الحج يُجسّد رمزية مقاومة وسوسة الشيطان، وتأكيد المسلم على رفض الاستسلام للمعصية، والتمسك بطاعة الله حتى لو كان الثمن غاليًا.

إنها تذكرةٌ دائمةٌ للمؤمن بأن الشيطان سيحاول دومًا أن يصرفه عن طريق الله، لكن عليه أن يواجهه بالحزم والإيمان.
تحية لكل حاجٍّ أدّى منسكه بسهولةٍ ويُسر، في ظل منجزٍ وطنيٍّ شامخٍ يخدم الإسلام والمسلمين.

المطيع محمد أحمد السيد

المدير الأسبق للحج والعمرة-السودان،

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى