من ضمن عادتي التي أداوم عليها – وهي على قد حالي – مشاهدة قصة من فيلم أو مسلسل. مع أني لست من أرباب المسلسلات ولا أرتاح لها، فأتابعها نادرًا. فأنا أميل إلى أقصر الطرق التي تؤدي إلى روما، لا إلى كل الطرق المؤدية إليها.
المسلسلات في معظمها تُطيل الأحداث عمدًا، بسبب التمطيط الذي يهدف إلى رفع مدة المسلسل وبالتالي رفع سعره. فعشر حلقات ليست كعشرين في التسويق. وكثيرًا ما يمكن أن تترك حلقة أو اثنتين دون أن يفوتك شيء من الفكرة، إذ تكون بعض الأحداث مجرد حشو أو مشاهد مصطنعة لجذب الانتباه.
مع ذلك، هناك من أدمن متابعة المسلسلات – خاصة التركية – مع أنها لا تخلو من فكرة الاستبداد والمظلومية. وبحكم رقة مشاعرنا، نتفاعل معها ونقرب علبة المناديل لمسح الدموع. فنحن – كما يقول المثل – نسوي من الحبة قبة، فنتعاطف مع شخصيات خيالية وهم في الواقع يضحكون على المتابعين.
هذه المقدمة التي قد تبدو مرحة، تخفي خلفها قصة حقيقية فيها الكثير من العبر والألم والفرح. فقد شاهدت ليلةً فيلمًا وثائقيًا بعنوان The Lost Children – الأطفال المفقودون، يتناول أحداثًا واقعية وقعت في كولومبيا.
في الأول من مايو 2023، أقلعت طائرة صغيرة من طراز “سيسنا 206” على متنها الأم ماجدالينا موكوتوي فالنسيا وأطفالها الأربعة (أعمارهم بين 11 شهرًا و13 عامًا)، متجهين من قرية أراراكوارا إلى سان خوسيه ديل غوفيايي، هربًا من تهديدات عصابات المخدرات. لكن بعد 35 دقيقة تعطّل المحرك وسقطت الطائرة وسط غابات الأمازون الكثيفة.
قُتل الطيار وزعيم السكان الأصليين ووالد الأم فورًا، فيما بقيت الأم على قيد الحياة لأيام، قبل أن تتوفى. وخلال تلك الأيام الأخيرة، أوصت أطفالها بالابتعاد بحثًا عن النجاة، مذكرةً إياهم بما علمتهم عن الصبر ومواجهة الصعاب.
وبالفعل، نجا الأطفال لأكثر من 40 يومًا في الغابة! قادتهم الفتاة الكبرى ليزلي (13 عامًا) مستندةً إلى ما تعلمته من جدتها وأمها ومن قبيلتها “هويتوتو”. عاشوا على بقايا الحطام ثم الفواكه البرية، وبنوا مأوى بسيطًا من أغطية الطائرة وأربطة الشعر.
أطلقت السلطات الكولومبية حملة بحث ضخمة، شارك فيها 150 جنديًا و200 متطوع من السكان الأصليين. وبعد أسبوعين وُجد حطام الطائرة، ثم ظهرت دلائل مثل زجاجة رضاعة وآثار أقدام. حتى إن الجيش استخدم مكبرات صوت بلغة السكان الأصليين لحث الأطفال على الثبات في مكان واحد. وفي اليوم الأربعين، وُجد الأطفال أحياء رغم الهزال ولسعات الحشرات.
لقد قدّم هؤلاء الصغار ملحمة صبر وكفاح تفوق الوصف. كيف امتصوا صدمة سقوط الطائرة، وفقدان الأب ثم الأم؟ وكيف قاوموا الجوع والخوف والوحوش والقبائل المجهولة؟ أسئلة لا تحتاج إلى إجابة بقدر ما تحتاج إلى رفع القبعة تقديرًا لهم.
الفيلم ركز على جهود فرق الإنقاذ، لكنه أغفل أن بطولة القصة الحقيقية هي لهؤلاء الأطفال. فقد جسدوا معنى الأمل والإصرار على النجاة.
وفي النهاية، وبينما كانت فرق البحث تتهيأ لإعلان فشل المهمة بعد 40 يومًا، ظهر الأطفال فجأة… أحياء. لم يكن ذلك إلا معجزة من الله، ورسالة واضحة:
أن الأمل لا يموت… ما دمت حيًا.



