أغنية «كل دا كان ليه»، كلمات مأمون الشناوي، التي غناها محمد عبدالوهاب، نالت من النجاح ما نالت، في زمنٍ كانت فيه الأغاني الراقية تتنافس لتكون أرقى وأجمل، لا كما يحدث اليوم من تنافس على الهبوط.
تخيلوا من كان يغني في مصر آنذاك: أم كلثوم، وأسمهان، وعبدالوهاب، وفريد الأطرش، وعبدالحليم، ونجاة، وشادية، ورشدي، ومحرم، وكارم. أأتتني الآن بكارم محمود أخر، ناهيك عن بقية العمالقة.
أعود إلى العنوان: «كل دا كان ليه»، الذي ينطبق على ما كان عليه الحال في مراحل متعددة من حياتنا. أراجع الماضي، ثم أنظر إلى الحاضر، فأجد بونًا شاسعًا ومسافاتٍ فكرية مختلفة بين الحالين. كانت حقب تتبدل فيها الأشياء من “لا” إلى “نعم”، ومن “نعم” إلى “لا”، وسأذكر بعضًا منها دون حصر.
كانت إذاعة جدة مقتصرة على البرامج الدينية والأخبار، ثم تطورنا وبدأ برنامج «من البادية»، وكان عندما يغني مطلق الذيابي (سمير الوادي):
«يالله أنا طالبك حمرا هوى بالي»
تُشنف الآذان وتنطلق السواليف عنوانًا.
يا لجمال صوته وأدائه، ويا لروعة كلمات الشاعر الذي نظمها:
«يالله أنا طالبك حمرا هوى بالي
لين روح الجيش طفّاحٍ جنايبها»
ويُقال إن القصيدة للشاعر المعروف فراج بن ريفة، وهناك من نسبها إلى العطيفي، مولى أحد شيوخ قحطان. وكان معظم المستمعين يسهرون الليل للاستماع لبرنامج البادية، ويعدّونه ترفًا ومتعة لا تضاهى؛ فقد كان فخر الممكن.
من يملك “الحاكي” – الذي كنا نسميه الشنطة – وبعض الأسطوانات، كان يستلقي على فراشه طلبًا للنوم وهو يتقلب خشية أن يوشي به أحد، ظنًّا أنه يستمع إلى “الشين من الكلام”!
ثم أطلّ مسرح التلفزيون، وغنى طلال مداح “ظالم ولكن”، وغنى الحلواني “يا شاغل بالي يا أسمر”، وبلفقيه “قلبي المتعوب”، ثم ولّى ذلك الزمن الجميل. وكان – بحق – ما أحلى الرجوع إليه، ولكن هيهات.
توالت الأيام، وجاء الوزير الحجيلان برؤية وعزم، فغيّر وطور كثيرًا من برامج الإعلام، وصرنا نرى أم كلثوم وفريد الأطرش وفيروز على شاشاتنا، وبدأ فننا المحلي يطل للمرة الأولى بعد أن كان بلا أثر.
ثم جاءت فترة عاد فيها الممكن إلى غير الممكن، وعادت الإذاعة والتلفزيون إلى رتابتهما القديمة.
حقب تتغير فيها أشياء وأشياء، وبقي التلفزيون مرة أخرى يعيش “حبة فوق وحبة تحت”، تحت مظلة المجهول ما بين المسموح والممنوع.
كان من يضع على بيته مستقبلًا لالتقاط القنوات الأخرى يُصاد كما تُصاد الطيور، والناس يحتالون لإخفاء تلك المستقبلات حتى لا تراها عيون الصائدين. لكن سرعان ما انتشرت القنوات في كل مكان… حتى في بيوت الصائدين أنفسهم!
ثم جاء هاتف السيارة، وكان في بدايته مخصصًا فقط لمن يعمل في مناصب رسمية، وأصبح يُباع من خلف الكواليس بمبالغ فلكية يسيل لها لعاب المستفيدين، ويجفّ عند من لا قدرة له على الشراء، حتى أصبح بعد ذلك مجرد بضاعة متاحة للجميع.
أما السينما، فكانت لها معي قصة؛ إذ كنت وأنا طفل في العاشرة أذهب مع أحد الأقارب لنشاهد فيلمًا يُعرض في إحدى السفارات بجدة. كان المكان مزدحمًا والروائح خانقة، نشاهد من على تبة أو جدار نتسلقه، نعدّها من الأعاجيب.
ثم جاءت سينما جمجوم – طبعًا بدون تصريح – وكان يُغضّ عنها الطرف وفق مبدأ “شاهد ما شفش حاجة”!
أما اليوم، فحضرت السينما بترخيص رسمي، مباحة، مريحة، بلا شحططة ولا دسائس، للجميع. فماذا حصل؟
استمتع الناس بلا تجاوزات، ولا ضجيج. وكل دا كان ليه؟
وحين ظهر الهاتف الجوال المزوّد بالكاميرا، تأخر السماح به، وكان يُباع خفية بأضعاف سعره، ثم أصبح من المستحيل شراء جوال بلا كاميرا، فغدا أمرًا عاديًا.
أما قيادة السيدات للسيارات، فكانت يومًا ما “لا يمكن ولا يصح”، مع أن نساء البادية كنّ يقدنها منذ القدم. ثم جاء عرّاب النهضة والرؤية الفاخرة – سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – فتجاوز ذلك المنع وسمح لهن، فماذا حصل؟
لا شيء… مضين في مشوار الحياة كما هي، بكل سلاسة ووعي ومسؤولية.
الترفيه، الذي كان حكرًا على كيانات محدودة ووراء الأبواب المغلقة، أصبح متاحًا لكل فئات المجتمع. لم يعد مقتصرًا على الحفلات الغنائية، بل شمل المسرحيات، والفعاليات الثقافية، والمنافسات العلمية، وسباقات الفورمولا، والمصارعة، واستضافة مباريات كرة القدم العالمية.
لقد تغيرت المفاهيم، وتصححت الكثير من الصور المغلوطة، بعد أن أثبت المجتمع السعودي أنه كفء وعلى قدر المسؤولية القانونية والأخلاقية.
وهكذا تمضي مملكة الرؤية والعصر الحديث إلى الأمام، لا مراوحة في مكانٍ رتيب، ولا رجوع إلى الخلف إلا لاستلهام إرث الأجداد المجيد، فيما هو نافع ومفيد، والسير على خُطا من وضع أسس هذا الكيان العظيم.
والسؤال المشروع الذي يتكرر هو:
كل دا كان ليه؟



