المقالات

الرجال.. من صناعة النساء

“صقاف الوعي»

منذ اللحظة الأولى لولادته، تتلقف الأيدي النسائية الطفل بالحب والحنان والرعاية.

أمٌّ تُطعمه، وجدةٌ تُدلّله، وأختٌ تلاعبه، لتهيئه للحياة.

ومنذ تلك اللحظة، تبدأ رحلة صناعة الرجل في معمل الأنوثة الرحيمة، حيث تُغذّى الرجولة أولًا بالعاطفة قبل التجربة، وبالكلمة قبل الفعل، وبالرحمة قبل القوة.

في الطفولة، يُغذّى الجسد أولًا، ثم يبدأ غذاء الفكر والوجدان.

أناشيد قبل النوم، وتهيئة نفسية عند الصباح، ووصايا يومية تحمل مزيجًا من الحنان والانضباط.

عشر سنوات كاملة يعيشها الطفل تحت إشراف الأم: من إعداد حقيبته، ومراجعته لدروسه، حتى استقباله على الباب بكلمة “شاطر وبطل” التي تصنع داخله أول لبنة في بناء الثقة بالنفس.

ثم تمتد تلك اليد نفسها، لا لتطعمه هذه المرة، بل لتغذّي عقله وروحه.

ففي البيت تبقى الأم المعلمة الأولى، تُغرس في طفلها القيم والسلوك قبل أن يتلقاها في مناهج المدرسة.

الأم توجّه وعيه، وتضبط انفعاله، وتزرع في داخله معنى الجدّ والاجتهاد.

فالمرأة – في البيت – هي المصدر الأول للمعرفة الممزوجة بالرحمة.

ولا يعني ذلك تغييب دور الأب، فله حضوره الحاسم في التوجيه وبناء القدوة والإشراف، غير أن البذرة الأولى للوعي تُزرع بيد امرأة، لتثمر لاحقًا رجولة متزنة قادرة على حمل المسؤولية.

وليس غريبًا أن يتجلى هذا المفهوم في السيرة النبوية،

فالنبي ﷺ تربّى في أحضان حليمة السعدية، التي لم تحتضن جسده فقط، بل احتضنت الوعي الأول لليُتم والاعتماد على الذات.

ومنها خرج إلى العالم قائدًا ومعلمًا وحكيمًا.

وحين نبلغ لحظة الوحي الأولى، نجد خديجة بنت خويلد رضي الله عنها تقف شامخة في التاريخ الإنساني كله،

حين عاد إليها النبي ﷺ مضطربًا خائفًا بعد لقائه بجبريل عليه السلام،

فهدّأت روعه بكلماتٍ من نور قالت فيها:

«كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق».

تلك اللحظة لم تكن مجرد طمأنينة زوجة لزوجها،

بل كانت صناعة للثبات في قلب الرسالة، وغرسًا لليقين في نفس النبي ﷺ،

لتؤكد أن وراء كل رجلٍ عظيم امرأة تُعيد اتزانه حين ترتجّ الأرض تحت قدميه.

قال الشاعر:

الأم مدرسة إذا أعددتها

أعددت شعبًا طيب الأعراقِ

ذلك البيت الخالد ليس مبالغة عاطفية، بل قانون اجتماعي وإنساني يؤكد أن صناعة الرجال تبدأ من إعداد المرأة.

فكل رجلٍ ناجح في موقعه هو امتداد لتربية أنثى عاقلة،

وكل مجتمعٍ ناهض هو ثمرة جيلٍ ربّته نساء بوعي لا بضجيج.

وحتى ليلة زفافه، يظل الرجل ابنًا لعاطفة أنثوية، تشاركه أمه اختيار شريكة حياته،

لتبدأ مرحلة جديدة من الرعاية تنتقل فيها “الحضانة” من الأم إلى الزوجة،

فتستمر رحلة العناية الخفية خلف الكواليس، بينما يتصدر الرجل دور البطولة أمام الناس.

إن الرجل في جوهره مرآة أنثى، ينعكس فيها ما غُرس فيه من قيم الرفق والاحترام والمسؤولية.

ومن يظن أن النساء نصف المجتمع فقط، ينسى أنهن أيضًا اليد التي تصوغ النصف الآخر.

فهنّ صانعات الرجال الذين يُشيّدون المجتمعات،

ومهندسات الوعي الذين يربّون الأجيال على القوة المتوازنة بين الرحمة والعقل.

وربما يمكننا أن نفهم الآن سرّ العبارة التي تتردد في الوجدان الشعبي: «كل فتاة بأبيها معجبة»،

فالإعجاب هنا لا يعود إلى الرجل في ذاته، بقدر ما هو انبهار غير معلن بأنوثةٍ أخرى صنعت هذا الأب، وغرست فيه الرجولة التي تُعجب بها ابنته اليوم.

إنها لحظة وعيٍ خفية تُدرك فيها الفتاة أن ما تراه في أبيها من رجولة هو في حقيقته صدى لأنثى حكيمة سبقتْه بالتربية والصبر والرعاية.

ولعلّ تلك الحكمة الأنثوية تتجلى في أبسط صورها وأعمقها، كما قالت لي والدتي – حفظها الله – يوم غضبتُ وضربتُ أحد أصدقائي، فغضبت وقالت:

«يا ولدي، الرجل والجمل محد يضربهم»

لم تكن جملة عابرة، بل رسالة خوفٍ نبيلٍ من أمٍّ تعرف أن في بعض النفوس أثرًا لا يزول، وأن الحقد كالنار يبدأ بشرارةٍ من غضب، وأن الوعي يبدأ حين تعرف متى تكفّ يدك ومتى تفتح قلبك.

لقد أدركتُ يومها أن النساء لا يُربّين أجسادًا فحسب، بل يُهذّبن أرواح الرجال قبل أن يشتدّ عودهم.

ختاما

أكرموا النساء منذ طفولتهن، وامنحوهن تربية تليق بدورهن،

فهن مصانع الرجال وركن الوعي في المجتمع،

ولعلنا ندرك وصية المصطفى ﷺ في خطبة الوداع:

«استوصوا بالنساء خيرًا».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى