المقالات

“هذا قربان!”.. قصة من مواسم الحج و مشروع “أضاحي”

من المعروف وسط عامة الحجاج أن الحاج يسعى بقدر الإمكان إلى التحكم في نفقاته و توفير كل ما يستطيع توفيره ليشتري به الهدايا التي يعتبرها جزءًا لا يتجزأ من رحلته المباركة، فكثير من الحجاج يشعرون أن عدم إحضار الهدايا قد يعرّضهم لإحراجات اجتماعية أمام الأهل و الأقارب، لذلك ترى بعضهم يوفر حتى من مال “الهدي”، فيقول: “ليك حتى قروش الهدي أُحاول أوفر منها، أو أصوم، أو أشتري بأقل قيمة للخروف!” و من هنا نجد أن أغلب الحجاج لا يفكرون في الدخول في الهدي من الإبل أو البقر بسبب ارتفاع كلفتها، بل يكتفون بأرخص الخراف دون التفكير العميق في المقصد الشرعي من هذه الشعيرة العظيمة.

يحكي لي الأخ (طارق الناظر) أنهم جاءوا مع حملة حج، و كان معهم زميل باكستاني يعمل معهم في الشركة، و. عندما قرروا أن يشتروا صكوك و سندات الهدي ليقوم أحدهم بالشراء نيابة عن البقية، قدّم الباكستاني مبلغًا قدره ألف ريال سعودي، فقلت له مستغربًا: “هذا المبلغ كبير! فهناك خراف بأسعار أقل!” فما كان منه إلا أن رد بصوت عالٍ و. بلهجة تملؤها الخشية و اليقين: “صديق! هذا قربان لله!” قال لي طارق: “علمت وقتها أننا فعلاً ننسى أنها قربان لله! و كم نتضجر أحيانًا من غلاء خراف الأضحية و ننسى أن المقصود هو التقرب إلى الله لا التوفير المادي، (و في ذلك فليتنافس المتنافسون).” إن من أعظم الدروس التي نتعلمها من الحج هي الإنفاق في سبيل الله، فكل ما ينفقه الحاج من مال و جهد و وقت هو عبادة و قربان خالص لله عز وجل، وقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿لن ينال الله لحومها و لا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم﴾، فالقصد من الأضاحي و الهدي ليس اللحم و الدم، و إنما التقوى و الإخلاص في النية والصدق في القربان، و لهذا فإن تيسير النفقة في الحج لا ينبغي أن يكون على حساب روح القربان، بل علينا أن نستشعر أن كل ريال يُنفق في هذا الموسم هو تجارة رابحة مع الله.

و قد أحسنت حكومة المملكة العربية السعودية حين أنشأت عام (١٤٠٣ه‍/١٩٨٣م) مشروعًا رائدًا لتنظيم نسك الهدي وطالأضاحي أطلقت عليه اسم “مشروع المملكة للإفادة من الهدي و الأضاحي”، و يُعرف اختصارًا باسم “أضاحي”، و يشرف على تنفيذه البنك الإسلامي للتنمية، حيث يقوم بتنظيم عمليات شراء الهدي و الأضاحي وذبحها في الوقت الشرعي والتصرف في لحومها وفق ضوابط شرعية وصحية دقيقة. و من أبرز أهداف المشروع رفع المشقة عن الحجاج و تسهيل أداء نسك الهدي أو الأضحية و ضمان الذبح في الوقت و المكان الشرعيين وفق أحكام الشريعة الإسلامية و توزيع اللحوم على فقراء الحرم المكي، ثم نقل الفائض إلى أكثر من 27 دولة حول العالم، و المحافظة على البيئة و النظافة العامة في المشاعر المقدسة و منع الذبح العشوائي الذي كان يحدث في العقود الماضية.

و قد حقق المشروع نجاحًا كبيرًا، حيث خفف من مظاهر الفوضى التي كانت تحدث سابقًا، و ضمن استفادة ملايين الفقراء في العالم من لحوم الأضاحي و الهدي.

إن الحج مدرسة عظيمة، و من دروسها البليغة الإنفاق عن طيب نفس، و القربان عن إخلاص و يقين، فلنتعلم من ذلك الباكستاني البسيط الذي وعى المعنى الحقيقي للقربان فقال بثبات المؤمن: “صديق! هذا قربان لله!” و ما أجمل أن ندرك في زحام الحياة أن ما نقدمه لله لن يضيع، بل هو المردود الأسمى و الثمرة الأطيب. ﴿و ما تنفقوا من خير فإن الله به عليم﴾ صدق الله العظيم.

المطيع محمد أحمد السيد
المدير العام للحج والعمرة – السودان (سابقًا)

المطيع محمد أحمد السيد

المدير الأسبق للحج والعمرة-السودان،

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى