“في إحدى جلسات عزاء (فِراش البكاء)، التقيت بعمّنا المرحوم عوض، وهو من أهلنا الطيبين في “ديم القراي”، رجل بسيط يعمل بالزراعة، سرد لي في ذلك اللقاء قصة من حياته، تحمل من الحكمة والدروس ما يستحق الوقوف عنده طويلاً، فقال لي: حصل خلاف بيني وبين مرتي (زوجتي)، بسبب تدخلها في موضوع تجاوزتني فيه، فما كان مني إلا أن طلّقتها. وقلت كلمة ما كنت ناوي أرجع فيها لو انطبقت السماء مع الأرض: «ما برجعها».
أخذت أولادي وبناتي ووصلتهم بيت أبوها، وبدأت أرسل ليهم المصاريف و أتفقّدهم من وقت لآخر، حضرت “الجودية” وحاولوا حل الخلاف بيننا، لكني كنت مصمّم على قراري.
بعد مرور فترة من الأيام، جاء إلي خبر بأن إبنتي مريضة، حالتها صعبة وتحتاج أن تدخل المستشفى عاجلاً، قمت من مكاني منزعجًا وركبت متجهاً إليهم، لكن لما وصلت، حدثت مفاجأة ما كنت متوقّعها…”
يُواصل عمنا عوض حديثه، وهو يسترجع تفاصيل ذلك اليوم: لقيت صالون أهل طليقتي مملوء برجال من وجهاء وقيادات المنطقة، واضح إنو الموضوع مدبَّر، و الخطة كانت محاصرتي بإقناع من كل الاتجاهات علشان أرجعها؛ لكن زادني الموقف إصرارًا، و دخلت عليهم، وتحدثوا معي باللين، وذكّروني بالأولاد و بمستقبلهم، لكني كنت مُصِر و قلت ليهم: «لو السماء انطبقت مع الأرض، ما برجع!» وغادرت المكان غاضبًا.”
وهنا جاءت المفاجأة…
يقول: والدة طليقتي، قامت وسط الرجال، وطلبت منهم أن يسكتوا وقالت كلمات ما بنساها طول عمري: يارجال.. «الزول القاعد قدامكم ده، عوض.. “راجل عديل و ود رجال”، و عيشته مع بنتي بيّنت لينا إنو ما فيهو أي شر، والعيب في إبنتي!، أنا ما راضية عنها، وما بقبل تكون زوجة ليه مرة تانية، وما ح أطلب منو يرجعها، لكن عندي طلب واحد: “متيمنة” أعرِس ليهو أختها بت المُنَى».(و”متيمنة” تعني حلفت باليمين!) يقول: شعرت وقتها إنو “كرعيني بردن” (رجولي بردت من الصدمة)، و أصبت بدهشة شديدة، ما كانت كلمات عابرة؛ دي كانت خطة محكمة باسم عروس جديدة، “أخت طليقتي!”..
ويواصل عوض وقفت مذهولًا، حائرًا بين الموقف الإجتماعي الجريء وبين تمسكي بموقفي،
قلت في نفسي: معقول أعمل حاجة ما حصلت في البلد؟ أعرِس أخت زوجتي وهي حيّة!
ثم التفتت لهم وقلت: أرجعوا الصالون و اعقدوا لي على أم عيالي، وفعلاً رجعت بيتي ومعاي مرتي القديمة و أولادي، وعشنا بعدها حياة طيبة وسعيدة الحمد لله.”
هذه القصة الواقعية تذكرنا بقصة الصحابية خولة بنت ثعلبة، التي أنزل الله فيها قرآنًا يُتلى، عندما اشتكت لرسول الله صلى الله عليه وسلم من زوجها، وقالت له: إن ضممتهم إليه ضاعوا و إنْ ضَمَمْتُهُمْ إلَيَّ جَاعُوا»، كانت خولة تعلم أن زوجها إن ضمّ الأبناء إليه ضاعوا، و إن ضمّهم إليها جاعوا، فهي لا تملك ما تعينهم به، و لا تقوى على الكد و التعب في مناكب الأرض.
و نحن اليوم، في زمان تتناسل فيه الخلافات الزوجية و تتفكك فيه البيوت بسهولة، نحتاج إلى نساء من طِينة أم بت المُنَى، نساء حكيمات، قادرات على النظر بعين المصلحة، لا بعين العناد أو الانتصار الشخصي.
فـحكمتها لم تُنقذ بيت عوض فحسب، بل أنقذت جيلاً كاملاً من الشتات، وأعادت لمّ الشمل، في وقت كانت فيه الكرامة و العناد يهددان الأسرة بالضياع.
نعم، نحتاج في بيوتنا اليوم أمهات وحموات وكبيرات قوم، مثل أم بت المُنَى، يقدّرن المواقف بحكمة، و يُقدّمن مصلحة الأبناء و الأسرة على العواطف و الانتصارات اللحظية.
رحم الله عمنا عوض،و جعلنا ممن يصلحون إذا فسد الناس، اللهم آمين






