كل ما في هذه المدينة المقدسة (مكة المكرمة) يلفت الأنظار ويسلب الألباب. تشاهد الملايين من الناس جاءوا من مختلف الأعراق والأجناس والأمصار، ترى الأسمر والأشقر والأبيض، والغني والفقير، والعربي والأعجمي، والمتعلم والأمي؛ جاءوا جميعًا إلى البيت الحرام حاجّين معتمرين، حيث أبواب السماء مفتوحة، تحملق فيها الأنظار، ترجو رحمةً من الله ورضوانًا.
جاءوا من كل حدبٍ وصوبٍ ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله كثيرًا، يتحدثون جميع اللغات واللهجات، والجميع سواسية كأسنان المشط. فرقتهم الجنسيات والبلدان، وجمعهم الدين الإسلامي الحنيف، ووحّدهم في الصلاة تجاه القبلة المشرفة، يؤدون الشعائر الإسلامية نفسها.
وذلك مصداقًا لقوله تعالى:
﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾
(سورة الحج: 27)
إنها مدينة مقدسة ليست ككل المدن على وجه البسيطة؛ نشأت في قلب الصحراء، مناخها حار، محاطة بالجبال، في وادٍ غير ذي زرع، ليس بها مقومات جاذبة للعيش فيها، لا من حيث الطبيعة ولا الطقس ولا الخضرة. ومع كل هذا تجد الأفئدة تهفو إليها، والقلوب قبل الأجساد تشتاق لها.
إنها دعوةُ أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم -عليه السلام- حين ترك زوجته هاجر وابنه إسماعيل في مكة، واستودعهم عند رب البيت المحرم، قائلًا:
﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾
(سورة إبراهيم: 37)
إنها دعوةٌ ارتقت من أرض مكة إلى السماء، فاستجاب لها رب الأرض والسماء، فجعل هذه الدعوة سببًا في أن تكون مكة من أحب البلاد إلى العباد، دعوة بقي أثرها إلى وقتنا الحاضر، وسيمتد -بإذن الله- إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لقد أكرم الله بلدنا الحبيبة المملكة العربية السعودية وقيادتها وشعبها بخدمة هذه المدينة المقدسة: خدمة أمنها وعمارتها وحجاجها وزوارها ومعتمريها. ويكفي أن قادة هذه البلاد تخلّوا عن ألقاب التفخيم والتبجيل – وهم أهلٌ لها – ورضوا بأن يكونوا خُدّامًا للحرمين الشريفين.
دعاني للكتابة منظرٌ انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي لأحد رجال الأمن في بلادنا الحبيبة، وما حصل من احتكاك مع أحد المعتمرين الذين لم يلتزموا بالتعليمات، بعدم الجلوس في الأماكن المخصصة لدخول المعتمرين وخروجهم بأعداد كبيرة، مما قد يؤدي إلى كوارث جسيمة – نسأل الله السلامة – وهذا من واجب رجل الأمن لحماية المعتمرين.
حدث احتكاك بين الجندي وأحد المعتمرين الذي رفض الابتعاد عن الأماكن المخصصة لدخول وخروج الأعداد الهائلة من المعتمرين، والذهاب إلى الأماكن المخصصة للجلوس لتلاوة القرآن والصلاة.
أولًا: الحادثة فردية ولا يجوز تعميمها، خاصةً في ظل وجود هذه الأعداد الهائلة من المعتمرين.
وثانيًا: أرى أنها ضريبةٌ لمكانة بلادنا الحبيبة المملكة وقيادتها، حيث اختارها الله – سبحانه – من بين الأمم لخدمة بيته الحرام،
وَيَخْلُقُ رَبُّكَ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ.


