تنتشر اليوم ظاهرة في بعض الأوساط العربية؛ فهناك مجتمعات يتحدث أفرادها الإنجليزية في كل مناسبة، ضرورية كانت أو غير ضرورية، وكأن اللغة أصبحت وسيلة لإظهار الذات والتباهي أكثر من كونها أداة للتواصل. حديث بالإنجليزية في المقاهي، وفي رسائل التواصل اليومية، وفي مواقف لا تتطلب سوى العربية، وبين أشخاص عرب يتقنونها أصلًا، ليبدو الأمر وكأنه استعراض لغوي لا يخدم معنى ولا يضيف قيمة.
هذه الظاهرة تتراجع تمامًا أمام الدرس الذي قدّمه — ويقدمه دومًا — ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حفظه الله، في ظهوره الدولي. رجل دولة يتقن الإنجليزية بطلاقة، ويستطيع استخدامها في كل لحظة، لكنه مع ذلك يختار العربية أولًا في محافل يخاطب جمهورها عادة باللغة الإنجليزية. يتحدث بها أمام رؤساء الدول، في قلب البيت الأبيض، وفي محافل دولية. فالعربية عند سموه ليست خيارًا ثانويًا، بل الأصل الذي يبدأ به وينطلق منه في أي مكان اعتزازًا بها.
ومع ذلك، كل ذلك يتغير في اللحظة التي يستدعي فيها الموقف التحدث بلغة أخرى. ففي زيارة سموه الأخيرة للبيت الأبيض، طرحت إحدى الصحفيات الأميركيات سؤالًا مباشرًا في أإحدى القاعات الإعلامية فبدأ الرئيس الأميركي رونالد ترامب بالرد، إلا أن ولي العهد تدخّل ليقدّم إجابته بنفسه ليرد ويضع النقاط على الحروف بشكل اختار الانتقال إلى الإنجليزية ليردّ مباشرة بلغة يفهمها جمهور السؤال، وبأسلوب واضح وهادئ ليرد ردا مختصرا،و قاطعا،و رادعا. فالإنجليزية بالنسبة لسموه “لغة موقف” تُستخدم فقط حين يكون استخدامها ضرورة واضحة وهنا يكمن الفرق الجوهري: ليس في إتقان اللغة، بل في إتقان توقيت استخدامها.
ولا أحد يختلف على أن “من تعلّم لغة قومٍ أمن مكرهم”، لكن اللغة الأجنبية ليست “بريستيجًا” ولا استعراضًا. والقدرة على التحدث بها مهارة يُحترم صاحبها، لكن الخطأ الحقيقي هو اعتقاد البعض أن استخدامها في غير موضعها يمنحهم مكانة أو يُظهرهم بمظهر مختلف. بينما الواقع يقول إن الإفراط غير الضروري في اللغة الأجنبية يكشف ضعفًا لا قوة، وتكلّفًا لا ثقة، وانفصالًا عن اللغة الأم لا علاقة له بالعالمية.
ومن هذا الصعيد يقدم لنا قائدنا الملهم نموذج متوازن لاستخدام اللغات الأخرى. هذا التوازن هو ما يصنع الهيبة، وهو ما يعيد اللغة إلى مكانها الطبيعي. فأن تكون قادرًا على التحدث بالإنجليزية لا يعني أن تستخدمها طوال الوقت. وأن تكون واثقًا بنفسك يعني أن تضع استخدام كل لغة في مكانها الصحيح. العربية ليست عقبة، والإنجليزية ليست رفاهية، بل انعكاس لوعي، ولتقدير الذات، ولقدرة على احترام اللغة الأم، وعلى استخدام اللغة الأجنبية دون استعراض.
0



