عام

قراءة تأويلية في أحدث نصوص الشاعرة/ هديل العتيبي (النور نحن)!

في أواخر أيام كورونا، 2021م، فاجأ (أدبي الطائف) المتابعين والمهتمين بإصداره ديوان شعر مميز بعنوان (العذراء المقدسة) للشاعرة هديل العتيبي. لم يكن العنوان اللافت هو وحده ما ميز الديوان، بل جودة المحتوى، وتجاوز الشاعرة لكثير من عثرات البدايات. وقد تناول بعض النقاد الديوان بقراءات أشادت بجوانب القوة فيه، ومنها على سبيل المثال قراءة الدكتور محمد عباس عرابي المنشورة في موقع (الأنطولوجيا)، وهذا رابطها:

ويتهيأ لي أن تجربة هديل الشعرية غدت أكثر نضجًا وعمقًا، ولعل قصيدتها الأخيرة (النور نحن) التي نشرتها مؤخرًا على حسابها في منصة (إكس)، برهان على ما أقول.

لقد استفزتني القصيدة إبداعيًا، فكتبت من وحي تأثيرها القراءة الانطباعية التالية التي تقارب بعضًا من جمالياتها.
***
تمهيد:
​هناك نصوص شعرية لا تُقرأ… بل تُضاء. إنها تأتي إلى الروح كوميض خافت أولًا، ثم تجرّك إلى الداخل، إلى تلك المنطقة التي لا يطؤها إلا مَن جرّب أثر اللغة على الوجدان. وقصيدة “النور نحن” للشاعرة هديل العتيبي تنتمي بامتياز إلى هذا النمط من النصوص، إذ لا تقدم المعنى جاهزًا، بل تفتحه على رحابة التأويل وعمق التجربة الإنسانية.

​ من “البَحْر” إلى “البَصِيرة”: النضج الرمزي والتاريخ الشعري
​تأتي هذه القصيدة بعد نحو خمس سنوات تقريبًا من تجربة الشاعرة الأولى، مما يمنحها ثقل النضج والعمق. اليوم، تبدو هديل أكثر قدرة على إدارة الرموز، وعلى بناء مشهد لغوي لا يقوم على الزينة، بل على البصيرة المجرَّبة. وهذا يتجلى منذ استهلال النص الذي يتبنى رؤية تتجاوز الحسّ المباشر:
​”بَحْرٌ تَبَخْتَرَ مَدُّهُ فَتَبَخَّرَا
مَوْجٌ مِنَ الرُّؤْيَا وَسِرٌّ لَا يُرَى”
​هذا المشهد الافتتاحي هو مفتاح القصيدة وسرها الفلسفي. فالمدّ هنا ليس حركة مائية، بل حالة وجود تتبختر بالجمال قبل أن تتحول إلى لا مرئي. إنه تحوّل من المادي إلى الروحي، حيث يصبح (الموج) ليس ابن الماء، بل ابن الرؤيا. بهذا الاستهلال، تُرسِّخ الشاعرة ثيمة أساسية: إن كثيرًا من (اليقين) في هذا الوجود هش ومتحول، وسر الحياة يكمن فيما لا تدركه الحواس، معلّقًا بين الصورة الملموسة والإشراق الداخلي.
​ امتداد الرؤيا: النور بين “العذراء المقدسة” و”النور نحن”
​إن هذا الاشتغال على جدلية النور والروح والغياب ليس جديدًا على الشاعرة. ففي ديوانها المذكور آنفا؛ (العذراء المقدسة)، تجلت هذه الثيمة بعمق، حيث أشارت إلى أن “نور العالم الذي هو من الحلم / نور منكسر في زجاج القلب شع”، وأن “روح الزمان وأغنيات العمر حُبلى”.
​هذا التاريخ الشعري يمنح قصيدة “النور نحن” طبقة إضافية من التأويل، فهي ليست مجرد ومضة، بل تتويج لمسيرة فنية تجعل من الروح نبعًا وقلبًا حنونًا، حيث “تزداد روحي سلامًا” بصحبة الكتاب، وكما تقول في مكان آخر: “أرى الأشواق آسفة / لهذي الروح منتصرة”. إن فكرة انتصار الروح وصقل الأحجار بها، هي ما يبدو وكأنه يتجسد في النص الجديد بشكل أكثر تركيزًا ووصولًا إلى مرحلة التصريح الحاسم.
​ هشاشة الطريق وثبات الطيف: جدلية البحث
​تستمر الشاعرة في رسم مشهد العبور، حيث تتجاور المفارقات الوجودية:
​”أَقْدَامُنَا فَوْقَ الرِّمَالِ تَبَيَّنَتْ
مَا زَالَ طَيْفُ الْحَظِّ فِي اللُّقْيَا سَرَىٰ”
​الرمل هنا هو هشاشة الطريق وزوال أثر الماشي، في مقابل “طيف الحظ”؛ ذلك الحضور الغامض الذي يرافقنا دون أن نراه. هذه الثنائية – هشاشة الطريق وثبات الطيف – تمثّل روح القصيدة: الحركة بحثًا عن معنى، ووجود شيء ما يرافقك بطريقة لا تعرف تفسيرها.
​ويتحول هذا الوجود المجهول إلى كائن ينمو:
​”مَرَّتْ هنا وَتَسِيرُ سَيْرًا مُرْهَفًا
قَدْ أَزْهَرَتْ وَهمًا تَمَدَّدَ وَانْبَرَى”
​هنا تتحول الذكرى أو الحلم إلى حضور ممتد، وتُجعل من (الوهم) كائنًا يزهر وينبري. هذا التحليل الفلسفي للوهم باعتباره قوة دافعة ومُشكِّلة للجمال ينم عن شاعر يمتلك حسّ الصورة.
​ الدمع الذي “أَبْحَرَا”: المصالحة والكشف
​ثم تنتقل الشاعرة إلى لحظة المصالحة مع الألم:
​”دَغْدِغْ شُعُورًا نَائِمًا أَيْقِظْ بِهِ
فِي الخَدِّ دَمْعًا مَالِحًا قَدْ أَبْحَرَا
وَانْظُرْ أَمَامَكَ لِلْأَمَاكِنِ رَعْشَةٌ
وَالطَّيْفُ مِنْ سُجُفِ الغُيُوبِ تَنَوَّرَا”
​هذا البكاء ليس ضعفًا، بل هو رحلة داخلية واعتراف بالذات. دمعة “أبحرت” لا تتوقف عند الوجنة، بل تذهب حيث تذهب الذكريات، فالألم هنا بوابة نور وكشف، وليس انكسارًا. وتُصبح الأماكن في حالة “رَعْشَة”، وهي ليست خوفًا، بل انكشافًا للحقيقة، فالطيف “يتنوّر” من حيث لا نراه.
​ النور نحن: التصريح الوجودي والانتصار
​تصل القصيدة إلى مركزها التأويلي الذي يلخص فلسفتها الداخلية في جملة حاسمة، هي ذروة انتصار الروح:
​”النُّورُ نَحْنُ.. وَكُلُّ لَيْلٍ يَنْقَضِي
يَبْقَى الظَّلَامُ دَلِيلَ نُورٍ أَسْفَرَا”
​هذا الإعلان هو إعلان عن أن مصدر اليقين والضياء ينبع من الذات الإنسانية. الشاعرة تضع الظلام ليس كـ “نقيض” للنور، بل كـ “دَلِيل” عليه. إنها قصيدة تقول — ببصيرةٍ مُجرَّبة — إن الإنسان هو من يمنح الظلام معناه، وهو من يشعل النور في نفسه.
أليس الإنسان هو خليفة الله في الأرض وفيه نفحة ونفخة منه عز وجل، وهذه لوحدها كفيلة بأن تبصم بـــــ (العشرة) كما يقال على ما عززته الشاعرة وجعلته عنونا لقصيدتها: (نحن النور)!
​وتُختتم الشاعرة ببوحٍ تصالحي يوجه الخطاب إلى الأماني، وإلى الذات:
​”قُلْ لِلْأَمَانِي رَاجِيًّا لَوْ كُنْتِ لِي
ذَاكَ الصَّدِيقُ بِصَمْتِهِ فَاقَ الوَرَى
فَلْتَجْمَعِي يَا نَفْسُ حَوْلِي رَايَةً
لِلْبَوْحِ تَرْسِمُ مِنْ هَوَانَا مَعْبَرَا”
​إن راية البوح والمعرفة الذاتية هنا تجعل من الفعل الإبداعي ملاذًا، ومن القصيدة ذاتها هذا المعبر الذي يجسد النور الداخلي المُكتشف والمنتصر.

ثمَة نقطة تسترعي الانتباه في قصائد الشاعرة؛ هذه وغيرها من القصائد وهي ثراء قاموسها الشعري، ولنأخذ مفردة (سُجُفِ) في قولها:
“وَالطَّيْفُ مِنْ سُجُفِ الغُيُوبِ تَنَوَّرَا”
فهذه المفردة قلما توظف بحرفية في الشعر، وكثيرون لا يعرفون معناها اللغوي، ولكن الشاعرة استخدمتها بوعي، وفي سياق ذكي يجعل من لا يعرف المعنى يدركه دونما استعانة بمحرك بحث أو بالذكاء الاصطناعي، أو بمعجم لغوي.
ف (سجف) تعني الستر/الستارة، وهو المعنى الأصلي والأكثر شيوعًا، وهو كل ما يُسدل أو يُرخى ليستر شيئًا.
وفي سياق القصيدة، نجد أن المعنى الكلي: هو: “والطيف (الأمل أو الرؤيا أو الكشف) أضاء وتجلَّى من خلف ستائر الأسرار والمجهول.”
هذه الصورة الشعرية ترمز إلى أن الكشف والنور (الطيف) يأتيان من عالم غير مرئي ومحجوب، وهذا يتوافق تمامًا مع النبرة الصوفية/التأويلية للقصيدة التي تبحث عن الحقيقة فيما وراء الحس المباشر.
​​لقد نجحت الشاعرة هديل العتيبي في صياغة نص متكامل، يرتقي بالصورة الحسية إلى مستوى الفلسفة الوجودية. إن قدرتها على دمج الأفعال المتحولة (تبختر/تبخر، أزهرت/انبرى) مع التصريح اليقيني (“النور نحن”) لهو دليل على نضج التجربة. ومع ذلك، نقترح على الشاعرة الاستفادة من هذه الطاقة العميقة للوصول إلى ذروة عاطفية تكون أشد كثافة في الأبيات التي تسبق التصريح النهائي، فمثلًا، استثمار فعل “الدغدغة” و”الإبحار” في البيت الرابع كان يمكن أن يُستغل لإبطاء إيقاع القصيدة قليلًا، لخلق توتر أعمق قبل الانفجار النوري في البيت السادس. استمرارها في هذا المسار، الذي يزاوج بين النبرة الرمزية والتجربة الذاتية، سيضمن لها مكانة بارزة في المشهد الشعري الحديث.

خلف سرحان القرشي

مؤلف ومترجم ومدرب في الكاتبة الإبداعية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى