المقالات

كفاءة في تحويل الاستثمار البشري إلى إنتاجية؟

أستاذ جامعي سابق

في سباق المهارات العالمي، لم يعد السؤال: “من يستثمر أكثر في مواطنيه؟”، بل تحوّل إلى: “من الأكثر كفاءة في تحويل هذه الاستثمارات إلى إنتاجية حقيقية وقدرة تنافسية اقتصادية؟” الإجابة المذهلة لهذا السؤال في عام 2025 تأتي من دولة-مدينة صغيرة، استطاعت أن تهزم عمالقة القارة والعالم.

كشف “مؤشر التنافسية العالمية للمواهب” (GTCI) في نسخته لهذا العام، والتي أطلقتها كلية “إنسياد” بالشراكة مع معهد “بورتولانس”، عن تحول جذري في خريطة المواهب العالمية. المفاجأة الكبرى كانت صعود سنغافورة إلى صدارة التصنيف العالمي للمرة الأولى في تاريخ التقرير، متجاوزةً سويسرا والدنمارك، اللتين ظلتا تحتكران الصدارة لسنوات.

ولكن اللافت في تقرير هذا العام لم يكن مجرد تغيير في المراكز، بل تغيير في المعايير ذاتها. فقد انتقل التقرير من قياس “القدرة” التقليدية للمواهب إلى قياس “القدرة على التكيف”، مؤكداً أن النجاح في اقتصاد اليوم لم يعد يُقاس بما تمتلكه الدول من مخزون مواهب، بل بمدى قدرتها على تطوير قوة عاملة مرنة، قادرة على الابتكار تحت الضغط، والتعامل مع التغيرات التكنولوجية المتسارعة، وعلى رأسها ثورة الذكاء الاصطناعي.

سنغافورة: تتويج لرحلة ستة عقود من الاستثمار في الإنسان

لم تكن صدارة سنغافورة محض صدفة، بل هي تتويج لرحلة استثمار استمرت ستة عقود، بدأت منذ استقلالها، حين أعلن قادتها أن “المورد الطبيعي الوحيد المتاح هو الشعب”. هذا الاستثمار طويل الأمد في التعليم والصحة – والذي يجسده حصولها باستمرار على مراكز متقدمة في مؤشرات رأس المال البشري – هو الأساس المتين الذي تقف عليه مكانتها التنافسية اليوم.

فقد تفوقت الدولة-المدينة بفضل مزيج استراتيجي من الحوكمة الفعالة، وجودة الحياة المرتفعة، والنظام التعليمي المتطور الذي يرتبط عضوياً باحتياجات سوق العمل المستقبلية. والأهم من ذلك، حققت سنغافورة المرتبة الأولى عالمياً في “المهارات التكيفية العامة”، التي تشمل المهارات الشخصية ومحو الأمية الرقمية والتفكير المبتكر، مما يجعل قوة عملها ليست فقط ماهرة، ولكنها مرنة وقادرة على التعلم المستمر.

تراجع الوصيفين: أميركا تتراجع والصين تواجه التحديات

في المقابل، شهدت الولايات المتحدة واحدة من أكبر الهبوطات في تاريخ التقرير، حيث تراجعت من المركز الثالث إلى التاسع. ويبدو أن هذا التراجع لا يعكس نقصاً في حجم الاستثمار، بل يكشف عن فجوة في “كفاءة التحويل”. فبالرغم من ضخامة الاستثمارات الأمريكية، إلا أن الأداء ضعف في مجالين حاسمين: المهارات التكيفية العامة، وقدرتها على استقطاب المواهب الأجنبية وتمكينها، في ظل سياسات هجرة أكثر تشدداً.

أما الصين، فهبطت إلى المركز 53، في إشارة إلى أن بيئة الأعمال وسوق العمل فيها أصبحت أقل جاذبية للمواهب العالمية، مما ينذر بتحدٍّ أمام طموحاتها التكنولوجية.

الخليج: قوة الاستقطاب تنتظر تعزيز التمكين

حافظت دول مجلس التعاون الخليجي على أداء قوي في مجال “استقطاب المواهب”، بفضل انفتاحها الاقتصادي وسياسات الهجرة المرنة.
لكن التقرير يشير ضمناً إلى أن هذه الدول لا تزال أمامها فرصة ذهبية لتعزيز “تمكين المواهب” و”الاستبقاء”، والاستثمار بشكل أعمق في تطوير المهارات المحلية، للانتقال من كونها وجهة جاذبة للمواهب إلى منصة عالمية لإنتاجها وتصديرها.

قصص نجاح ملهمة: الدروس المستفادة من الاقتصادات الصاعدة

برزت عدة اقتصادات كقصص نجاح ملهمة، تثبت أن التنافسية في المواهب لا تتطلب بالضرورة موارد ضخمة، بل تركيزاً استراتيجياً واستثماراً ذكياً في مهارات المستقبل.

فالفلبين، على سبيل المثال، برزت كقصة نجاح صاعدة بين اقتصادات الدخل المتوسط الأدنى، حيث احتلت مراكز متقدمة في المهارات الشخصية كالتواصل والعمل الجماعي، مما يؤكد أن التخصص في مجالات ميزة تنافسية محددة قد يكون استراتيجية ناجحة.

كما تقدمت أوزبكستان لتصدر منطقة آسيا الوسطى والجنوبية، بينما تمكنت موريشيوس من احتلال المركز الأول في إفريقيا جنوب الصحراء. وأثبتت سريلانكا وطاجيكستان وكينيا أن بناء أنظمة فعالة لتنمية المواهب يمكن أن يعوض نقص الموارد المالية الضخمة.

المرونة هي المستقبل: من البقاء إلى الازدهار

خلاصة التقرير تؤكد أن مفهوم “المرونة” لم يعد يعني العودة إلى ما كنا عليه قبل الأزمات، بل “القفز إلى الأمام” نحو نموذج تنموي أكثر ذكاءً ومرونة. الدول التي نجحت في هذا التحول، مثل دول الشمال الأوروبي وسنغافورة وسويسرا، استثمرت في سياسات سوق عمل نشطة، وبناء الثقة المؤسسية، والتنسيق الأفقي بين القطاعين العام والخاص.

الرسالة الأهم التي يوجهها التقرير للعالم هي: الدول التي ستفوز في سباق المواهب خلال العقد القادم لن تكون بالضرورة الأغنى أو الأكبر، بل ستكون الأكثر قدرة على التكيف، والأسرع في التعلم من الأزمات، والأعلى كفاءة في تحويل استثماراتها البشرية إلى إنتاجية حقيقية تدفع عجلة النمو والابتكار.

سنغافورة اليوم ليست مجرد فائزة بمركز أول، بل هي نموذج جديد يُحتذى به، يثبت كيف يمكن لدولة صغيرة أن تهزم عمالقة تقليديين بفضل الرؤية طويلة الأمد والمرونة الاستراتيجية، محققةً أعلى عائد ممكن من استثمارها في موردها البشري، وهو أنبل الموارد وأكثرها قيمة.

أ.د. عصام يحيى الفيلالي

أستاذ سابق – جامعة الملك عبدالعزي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى