
ليست كل الكلمات التي تُلقى في المؤتمرات قابلة للقراءة بعد انتهاء التصفيق، فبعضها يُنسى بانتهاء المناسبة، وبعضها الآخر يستحق أن يُعاد تفكيكه بوصفه وثيقة اتجاه لا خطاب مناسبة.
ومن هذا النوع جاءت كلمة مدير الأمن العام، الفريق محمد بن عبدالله البسامي، في مؤتمر أبشر 2025.
منذ الجملة الأولى، لم يتحدث المتحدث بلغة الإعلان أو الوعود، بل بلغة البناء: «بنينا هذه الاستراتيجية…».
والفرق بين أن “تُعلن” وأن “تبني” ليس فرقًا لغويًا، بل فرق في العقل الإداري؛ فالبناء يفترض التخطيط، والتدرّج، والاستدامة، ويعكس ذهنية دولة لا ذهنية ظرف.
الكلمة لم تفصل الأمن عن سياقه الوطني، بل ربطته مباشرة بالرؤية والرسالة والأهداف، في تأكيد واضح على أن الأمن العام لم يعد جهازًا يعمل بمعزل عن التحول الوطني، بل أحد أعمدته التنفيذية. وهنا تحديدًا تتبدى دلالة مهمة: الأمن بوصفه جزءًا من مشروع الدولة، لا مجرد وظيفة ضبط.
وحين حدّد المتحدث أهداف الاستراتيجية بثلاثية واضحة: مجتمع آمن، خدمات رقمية مبتكرة، كفاءة تشغيلية مستدامة، كان يعيد تعريف الأمن بلغة حديثة تجمع بين الإنسان والتقنية والمؤسسة.
الأمن هنا ليس حالة طوارئ، بل بيئة حياة، وليس إجراءً آنيًا، بل منظومة مستمرة.
غير أن مركز الثقل الحقيقي في الكلمة لم يكن في الأهداف ولا في الأرقام، بل في عبارة واحدة تختصر التحول كله: «بيانات تعزز اتخاذ القرار».
هذه العبارة، على بساطتها، تنقلنا من منطق الأمن القائم على رد الفعل، إلى الأمن القائم على التحليل والاستباق. فالبيانات لم تُطرح كأداة مساعدة، بل كقاعدة قرار، وهذا هو الفارق الجوهري بين إدارة تقليدية وإدارة ذكية.
وعندما استعرض الهيكل التنفيذي للاستراتيجية – محورين استراتيجيين، عشرة مسارات، خمسًا وثلاثين مبادرة، ومئة وواحدًا وثلاثين مشروعًا – لم يكن الهدف استعراض الأرقام، بل ترسيخ فكرة الحوكمة، وإيصال رسالة مفادها أن ما يُطرح قابل للقياس والتقييم والمساءلة.
لغة الكلمة كانت هادئة، خالية من المبالغة، أقرب إلى التقرير الاستراتيجي منها إلى الخطاب الإنشائي، وهو ما يعكس نضج الخطاب الأمني حين يُخاطب مجتمعًا رقميًا واعيًا، لا جمهورًا يبحث عن الشعارات.
في المحصلة، لم تكن كلمة مدير الأمن العام في مؤتمر أبشر 2025 مجرد عرضٍ لإنجاز، بل إعلانًا غير مباشر عن تحول في فلسفة الأمن:
من الأمن التنفيذي إلى الأمن التحليلي،
ومن الإجراء إلى المنظومة،
ومن الحدس إلى البيانات.
وهنا تتجلى قيمة الخطاب المؤسسي حين يُكتب ليُقرأ بعد المناسبة، لا ليُصفّق له أثناءها فقط.






